الطبع
مفهوم الطبع في القرآن
أولًا: المعنى اللغوي:
أصل مادة ( ط ب ع) تدل على معنيين:
الأول: نهاية ينتهي إليها الشيء حتى يختم عندها.
والثاني: طبع الإنسان وسجيته، أي: ما طبع عليه الإنسان في مأكله ومشربه، وسهولة أخلاقه وحزونتها، وعسرها ويسرها، وشدته ورخاوته، وبخله وسخائه(1).
وقيل: إنّ أصل الطبع: الصدأ، والوسخ، والدنس، يكثر على السيف وغيره، ثم استعير فيما يشبه ذلك من الأوزار والآثام وغيرهما من المقابح(2).
وقال الراغب: «الطبع: أن تصوّر الشيء بصورة مّا، كطبع السّكّة، وطبع الدّراهم، وهو أعم من الختم وأخص من النقش، ومنه قوله تعالى: (ﯗ ﯘ ﯙ) [المنافقون: ٣].
وبه اعتبر الطّبع والطبيعة التي هي السجية، فإن ذلك هو نقش النفس بصورة مّا، إمّا من حيث الخلقة، وإمّا من حيث العادة، وهو فيما ينقش به من حيث الخلقة أغلب»(3).
وأما مادة (ق ل ب) فتدل على معنيين:
الأول: خالص شيء وشريفه.
الثاني: رد شيء من جهة إلى جهة.
فمن الأول: قلب الإنسان، سمي بذلك؛ لأنه أخلص شيء فيه وأرفعه. وخالص كل شيء وأشرفه قلبه.
ومن الثاني: قَلَبَتُ الثوب قَلْبًا. وقلبت الشيء: كَبَبْتُه، وقَلَّبْتُه بيدي تقليبًا(4).
ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:
الطبع اصطلاحًا: أََثَرٌ يثبت على الشيء بعد إحكام غلقه وسده، ويكون لازمًا له، لكيلا يدخل فيه شيء ولا يخرج منه شيء(5).
و(الطَّبَعُ) بتحريك الباء: الدنس، وقد حمل بعضهم قوله تعالى: (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) [النحل: ١٠٨]. على ذلك، ومعناه: دنّسه، ومن ذلك أيضًا: طبع الله على قلب الكافر؛ كأنه ختم عليه حتى لا يصل إليه هدى ولا نور، فلا يوفق لخير(6).
قال ابن عاشور: «الطبع: إحكام الغلق بجعل طين ونحوه على سد المغلوق بحيث لا ينفذ إليه مستخرج ما فيه إلا بعد إزالة ذلك الشيء المطبوع به، وقد يَسِمُون على ذلك الغلق بِسِمَة تترك رَسْمًا في ذلك المجعول، وتسمى الآلة الواسمة طابَعًا- بفتح الباء-»(7).
والطبع: أثر يثبت في المطبوع ويلزمه فهو يفيد من معنى الثبات واللزوم ما لا يفيده الختم؛ ولهذا قيل: طبع الدرهم طبعًا، وهو الأثر الذي يؤثره فلا يزول عنه(8).
والقلب اصطلاحًا: هو محل النفس والعقل والعلم والفهم والعزم. وسمي قلبًا لتقلبه في الأشياء بالخواطر والعزوم والاعتقادات والإرادات(9).
وعرفه الجرجاني فقال: «هو لطيفة ربانية لها بهذا القلب الجسماني الصنوبري الشكل المودع في الجانب الأيسر من الصدر تعلق، وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسان، ويسميها الحكيم: النفس الناطقة، والروح باطنه، والنفس الحيوانية مركبة، وهي المدرك، والعالم من الإنسان، والمخاطب، والمطالب، والمعاتب»(10).
والطبع على القلوب: «كناية عن بلوغها مستوى من القسوة وجفاف عواطف الخير، فهي لا تتأثر ببيان، ولا تستجيب لموعظة. فكأنها بيوت مقفلة مطبوع عليها، أو قطعة من المعدن قد علاها الصدأ فغشاها»(11).
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (من ترك ثلاث جمع تهاونًا بها، طبع الله على قلبه)(12)، أي: ختم عليه وغشاه ومنعه ألطافه(13).
الطبع في الاستعمال القرآني
وردت مادة (طبع) في القرآن (11) مرة (14).
والصيغ التي وردت، هي:
الصيغة |
عدد المرات |
المثال |
الفعل الماضي |
6 |
(ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ) [المنافقون:3] |
الفعل المضارع |
5 |
(ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ) [غافر:35] |
وجاء الطبع في القرآن بمعنى إحكام الإغلاق مع الختم (15).
الألفاظ ذات الصلة
1-الختم:
الختم لغة:
الخاء والتاء والميم أصل واحد، وهو بلوغ آخر الشيء، وكثيرًا ما يفسر الختم بالطبع؛ لأن الطبع على الشيء لا يكون إلا بعد بلوغ آخره(16). وقيل: الختم: هو التأثير في الطين ونحوه(17).
الختم اصطلاحًا:
قال الكفوي: الختم في الاصطلاح: «قريب من (الكتم) لفظًا لتوافقهما في العين واللام، وكذا معنى؛ لأن الختم على الشيء يستلزم كتم ما فيه»(18). والختم: أصله في الحسيات، ومنه ختم الكتاب بالطين لتأمين إيصاله دون فض، واستعمل بتوسع في الختم المعنوي، ومنه الختم على القلوب(19).
الصلة بين الختم والطبع:
لم يفرق اللغويون بين الختم والطبع، قال ابن منظور: الختم على القلب: أي: أن لا يفهم شيئًا ولا يخرج منه شيء كأنه طبع. وفي التنزيل العزيز: (ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ) [البقرة: ٧]؛ هو كقوله: (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) [النحل: ١٠٨]. فلا تعقل ولا تعي شيئًا(20)، وقال الدامغاني: إنّ ختم كطبع(21).
وقال الزجاج: معنى ختم في اللغة وطبع معنى واحد، وهو التغطية على الشيء، والاستيثاق من أن لا يدخله شيء (22).
وفرّق العسكري بين الختم والطبع بقوله: «إن الطبع أثر يثبت في المطبوع ويلزمه، فهو يفيد من معنى الثبات واللزوم ما لا يفيده الختم، ولهذا قيل: طبع الدرهم طبعًا، وهو الأثر الذي يؤثره فلا يزول عنه، كذلك أيضًا قيل: طبع الإنسان؛ لأنه ثابت غير زائل. وقيل: طبع فلان على هذا الخلق إذا كان لا يزول عنه»(23).
وفرّق ابن القيم بين الختم والطبع فقال: قلت: الختم والطبع يشتركان فيما ذكر، ويفترقان في معنى آخر، وهو أن الطبع ختم يصير سجيّة وطبيعة، فهو تأثير لازم لا يفارق(24)، وبهذا يشير إلى أن الطبع أشد من الختم.
2-الران:
الران لغة:
يقال: «الرّان والرّين» وهما لغتان، ويرجع معناه إلى الغلبة والرسوخ، قال أبو عبيدة: «(ﭽﭾ ﭿ) : غلب على قلبه»(25).
وقيل: إنّ أصل الرين: الطبع والتغطية، يقال: ران الذنب على قلبه يرين رينا وريونا: غلب عليه وغطاه(26)، وإلى ذلك ذهب الزجاج(27).
الران اصطلاحًا:
هو الطبع والدنس والصدأ، يغشى القلب ويغطيه من توالي الذنوب وكثرتها، ومنه قوله تعالى: (ﭹﭺ ﭻﭼ ﭽﭾ ﭿ) [المطففين:١٤].
وهو الموضع الوحيد في القرآن الكريم الذي ذكر فيه (الران)، ومعنى الآية: أي صار ذلك كصدأ على جلاء قلوبهم فعمي عليهم معرفة الخير من الشر(28). وقال الحسن ومجاهد: «هو الذنب على الذنب، حتى تحيط الذنوب بالقلب، وتغشاه فيموت القلب»(29).
الصلة بين الران والطبع:
قال مجاهد: الرين أيسر من الطبع، والطبع أيسر من الإقفال، والإقفال أشد من ذلك كله(30).
وقال ابن الأثير: كانوا يرون أن الطبع هو الرين(31). وقال أبو معاذ النحوي: الرين: أن يسود القلب من الذنوب. والطبع: أن يطبع على القلب، وهو أشد من الرين، وهو الختم. قال: والإقفال أشد من الطبع، وهو أن يقفل على القلب(32).
وقال الزجاج: «يقال: ران على قلبه الذنب يرن رينا، إذ غشي على قلبه». قال: «والرين، كالصدأ يغشى القلب»(33).
قال ابن القيم: «وأما الرين والران: فهو من أغلظ الحجب على القلب وأكثفها»(34).
وقيل: إن الختم والطبع والرين ألفاظ تجري على شيء واحد، وهو: تغطية الشيء والحيلولة بينه وبين ما من شأنه أن يدخله ويمسه(35). وإلى ذلك ذهب بعض اللغويين، قال ابن منظور: إنّ معنى «ران» في الآية: أي غلب وطبع وختم، وبنحوه قال ابن الأثير(36).
3
الأكنة:
الأكنة لغة:
من الكنّ: وهو وقاء كل شيء وستره، والجمع أكنانٌ، قال الله تعالى: (ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ) [النحل: ٨١].
والأكنّة جمع (أكنان): مفردها: كنان، وتعني: الأغطية. ومنه قوله تعالى: (ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) [الأنعام: ٢٥](37).
الأكنة على القلوب اصطلاحًا:
هي غطاء محكم على القلب يمنع الفهم ويحجب الهداية، وهي بهذا المعنى تتشابه مع معنى الطبع على القلوب. وقال الزجاج في قوله تعالى: (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) [فصلت: ٥]. أي: في غلف، أي: ما تدعونا إليه لا يصل إلى قلوبنا لأنها في أغطية(38).
وقال الراغب: في معنى قوله تعالى: (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ) [فصلت: ٥].أي: في غفلة من هذا. وقيل: معناه: قلوبنا أوعية للعلم. وقيل: معناه: قلوبنا مغطاة(39).
الصلة بين الأكنة والطبع:
قال الراغب: إنّ الإنسان إذا تناهى في اعتقاد باطل، أو ارتكاب محظور، ولا يكون منه تلفت بوجه إلى الحق، يورثه ذلك هيئة تمرنه على استحسان المعاصي، وكأنما يختم بذلك على قلبه، وعلى ذلك قوله تعالى: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) [النحل: 108].
وعلى هذا النحو استعارة الكنّ في قوله تعالى: (ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) [الأنعام: ٢٥]. فجعل معنى الأكنة يقوم مقام الختم والطبع(40).
4
الغلف:
الغلف لغة:
قال ابن فارس: إن مفردة غلف تدل على غشاوة وغشيان شيء لشيء، وقلب أغلف: كأنما أغشي غلافًا، فهو لا يعي شيئًا. قال الله تعالى: (ﭛ ﭜ ﭝ) [النساء: ١٥٥].
وقرأت: (غلف)، أي: أوعية للعلم. والقياس في ذلك كله واحد(41). وقيل في معنى: «غلف، أي: صم(42). وقيل أيضًا في تفسيرها: أي: في غطاء محجوبة عما تقول»(43).
الغلف اصطلاحًا:
لا يختلف عن المعنى اللغوي، من حيث إنه غشاء وغطاء يحجب القلب عن الإيمان. وتتفق دلالة الغلف مع دلالة الأكنة ويتشاركان المعاني نفسها، إلا إن بينهما فرقًا دقيقًا، وهو أن معنى: (ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) [الأنعام: ٢٥]. أي: مجموعة أغطية وأستار، واحدًا تلو الآخر حتى يحجب عنها الفهم والهداية والإيمان؛ بدلالة صيغة الجمع، وأما (غلف) وورودها بالصيغة نفسها، فتعني: أن هذه القلوب غطيت وأغشيت بأغلفة، وكأن القلب صار غلاف لنفسه، ولذا نجد الجملة مع الغلف استغنت عن حرف الجر، بعكس الأكنة حيث عديت بحرف الجر.
الصلة بين الغلف والطبع:
وجه التشابه في المعنى في قوله: (ﭜ ﭝ) مع قوله: (ﭖ ﭗ ﭘ)، فهما يشتركان في المعنى من حيث عدم الانتفاع بالآيات والنذر؛ لإحاطة هذه القلوب بأغلفة وأغطية تمنع من وصول الإيمان، فقلوبهم لا تفقه علمًا، ولا تعي حقًّا، ويتفارقان من حيث الشدة، فالطبع أشد أثرًا في القلب من الأكنة والغلف.
ومن دلائل تقارب المعاني بين الغلف والطبع اقترانهما في سياق واحد كما في قوله تعالى في وصف قلوب الكفار: (ﭛ ﭜ ﭝ) [النساء: ١٥٥].
فذكر المفسرون فيه وجهين: أحدهما: أن (غلفًا) جمع غلاف، والمعنى على هذا أنهم قالوا: (ﭜ ﭝ)، أي: أوعية للعلم، فلا حاجة بنا إلى علم سوى ما عندنا، فكذبوا الأنبياء بهذا القول. والثاني: أن (غلفًا) جمع أغلف وهو المتغطي بالغلاف، أي: بالغطاء، والمعنى على هذا أنهم قالوا: قلوبنا في أغطية، فهي لا تفقه ما تقولون(44)، فكان الجواب من الله تعالى بقوله: (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) [النساء: ١٥٥]. فجاء بلفظ الطبع كنتيجة وعقاب وخاتمة، فهي ليست مغلفة بطبعها. إنما كفرهم جَرَّ عليهم أن يطبع الله على قلوبهم، فإذا هي صلدة جامدة مغطاة، لا تستشعر نداوة الإيمان ولا تتذوق حلاوته، فلا يقع منهم الإيمان، إلا قليلًا، ممن لم يستحق بفعله، أن يطبع الله على قلبه(45).
5
الأقفال:
الأقفال لغة:
جمع قفل، قال ابن فارس: القاف والفاء واللام أصل صحيح يدل على صلابة وشدة في شيء، ومنه القفل: سمي بذلك؛ لأن فيه شدًّا وشدة. يقال: أقفلت الباب فهو مقفل(46)، ثم عبّر عن كلّ مانع للإنسان من تعاطي فعل، فيقال: فلان مقفلٌ عن كذا. وقيل للبخيل: مقفل اليدين، كما يقال: مغلول اليدين(47).
الأقفال اصطلاحًا:
لفظ يستعار لمنع وصول الحق والإيمان إلى قلوب الكفرة والمنافقين المخبر عنهم بالختم. قال تعالى: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ) [محمد: ٢٤].
والمقتفل من الناس: الذي لا يخرج من بين يديه خيرًا(48).
الصلة بين الأقفال والطبع:
الأقفال أشد أنواع الطبع على القلوب، قال مجاهد لما ذكر الرين والطبع قال: والإقفال أشد ذلك كله(49). والأقفال: تحول بين القلوب وبين القرآن وبينها وبين النور، فإن استغلاق قلوبهم كاستغلاق الأقفال التي لا تسمح بالهواء والنور(50). ويستلزم لإزالة هذه الأقفال تدبر القرآن الكريم فهو يزيل الغشاوة ويفتح النوافذ لدخول الإيمان، قال تعالى (ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ) [محمد: ٢٤].
وفي مقام الألفاظ ذات الصلة بالطبع على القلوب يقول الشيخ عبد الرحمن حبنكة واصفًا الطبع والختم والران والأكنة والغلف والأقفال: «إنّ من فطرة الإنسان إذا هو عاند وأصر على الباطل بعد معرفة الحق المبين، وأعلن تكذيبه وكفره بالحق، أن يصاب قلبه بالصمم، وأن يتبلد حسه تجاه الحق والخير، فإذا ألقي عليه الهدى أعرض عنه، ولم يستمع إليه، ولم يدرك جوانب الحق فيه، ولم يتحرك وجدانه وضميره بعاطفة إيجابية نحو الخير، ويكون كالصخر الأصم الذي لا يقبل ندى معرفة، ولا يندى بعاطفة، فإذا وصل الإنسان إلى هذا المستوى من القسوة وجفاف عواطف الخير، فإنه يكون مغلف القلب، مسدود المنافذ، محجوبًا بحجاب غليظ، حتى يكون بمثابة البيت الذي أغلق بابه، وضرب عليه بالأقفال، ثم ختمت الأقفال بطابع الطين أو الشمع، إشعارًا بوصولها إلى غاية إقفالها أو بمثابة المعدن الذي يعلوه الصدأ حتى يغشيه تغشية تامة، ويحجبه حجبًا كاملًا، وهذا هو الران الذي يغشّي قلوب الكافرين المكذبين»(51).
أسباب الطبع
إن للطبع على القلوب أسبابًا كثيرة ومتنوعة قد يغفل عنها الإنسان، وقد ذكرها القرآن الكريم وبينها ووضحها مقرونة بالطبع والختم وما شابههما من المعاني، فالإنسان حين يعرض عن منهج الله والحق ويقترف الذنوب والمعاصي فسيمرض قلبه ويصيبه العمى والفساد، وتنكت فيه نكتة بعد نكتة، عندئذ يغلف ويحجب عن الهدى فلا يدرك الحق ولا يبصره، فيكون القلب منكوسًا مغلقًا لا تنفعه الآيات والنذر؛ لذا فإن معرفة أسباب الطبع في ضوء القرآن الكريم مهمة جدًّا للمسلم من أجل الحفاظ على قلبه السليم من أن يصيبه الران ويطبع عليه فيموت هذا القلب عن الوعي والسماع والفهم. ومن بين هذه الأسباب الكفر والنفاق، والعناد والتكبر والعدوان والجبروت، واتباع الهوى والشهوات، وعدم الانتفاع بآيات الله تعالى في الآفاق والأنفس، وسنعرض لها في المطالب الآتية.
أولًا: الكفر والنفاق:
لا شك أن من أهم أسباب الطبع على القلوب (الكفر والنفاق) والعياذ بالله، فهما الداء العقيم والشر المستطير، وإذا داوم عليهما الإنسان ختم على قلبه بالكفر والنفاق فلا يعي حقًّا، ولا يهتدي طريقًا، ولذلك لما ذكر الله تعالى في أوائل سورة البقرة صفات المؤمنين أتبعهم بصفات الكافرين فقال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ) [البقرة: ٦].
فكان جزاء كفرهم بالله تعالى وبآياته أن قال: (ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ ﭪ) [البقرة: ٧]. أي: ختم الله على قلوبهم بالكفر(52).
ثم إن الكافر لا يرعوي عن ضلالته لما سبق من شقاوته، وقد حكم الحقّ سبحانه بأن لا يفارق قلوب أعدائه ما فيها من الجهالة والضلالة، ولا يدخلها شيء من البصيرة والهداية. وقد وردت آية سورة البقرة ناعية على الكفار شناعة صفتهم وسماجة حالهم، فكان أن طبع الله على قلوبهم مجازاة لهم بكفرهم(53).
قال الرازي في مناسبة الآية: إنه لما بين الله تعالى في الآية الأولى أنهم لا يؤمنون أخبر في هذه الآية بالسبب الذي لأجله لم يؤمنوا، وهو الختم، فكان الختم مانعًا لهم من الإيمان، والختم عبارة عن حصول الداعية القوية للكفر المانعة من حصول الإيمان، فعند حصول الداعية الراسخة القوية للكفر، صار القلب كالمطبوع على الكفر، وقال الحسن: الطبع عبارة عن بلوغ القلب في الميل في الكفر إلى الحد الذي كأنه مات عن الإيمان، فكما أن الإيمان حياة القلب فالكفر موته(54).
وقد وصف الله تعالى قلوب الكفار بعشرة أوصاف: الختم، والطبع، والضيق، والمرض، والرين، والموت، والقساوة، والانصراف، والحمية، والإنكار.
وفيما يأتي بعض الأمثلة:
فقال في الإنكار: (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ) [النحل: ٢٢].
وقال في الحمية: (ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ) [الفتح: ٢٦].
وقال في الانصراف: (ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ) [التوبة: ١٢٧].
وقال في القساوة: (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ)[ الزمر: ٢٢].
وقال في الموت: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ) [الأنعام: ١٢٢].
وقال في الرين: (ﭹﭺ ﭻﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) [المطففين: ١٤].
وقال في المرض: (ﮃ ﮄ ﮅ) [البقرة: ١٠].
وقال في الضيق: (ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ) [الأنعام: ١٢٥].
وقال في الطبع: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) [المنافقون: ٣].
وقال: (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) [النساء: ١٥٥].
وقال في الختم: (ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ) [البقرة: ٧](55).
فكل هذه النصوص القرآنية تدل على أن قلوب الكفار المعاندين، والمنافقين المكذبين في حجب عن البصيرة ومعرفة الحق والهداية، وذلك بسبب تماديهم في الكفر والغي واستغراقهم للذنوب والمعاصي، وهذه النتيجة من سنن الله الكونية التي حذر منها الناس، فقال: (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ) [الأعراف: ١٠١].
وعقوبة الطبع إنما هو معنى يخلقه الله تعالى في القلب فيمنع من الإيمان به، ودليله قوله تعالى: (ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖﯗ ﯘ ﯙ) [الحجر: ١٢- ١٣].
وقال: (ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) [الأنعام: ٢٥]. أي: لئلا يفقهوه(56).
وجعل الراغب ثلاثة ذنوب للإنسان يقابلها ثلاث عقوبات في الدنيا، ومنها: الضلال، وهو أن يسبق إلى اعتقاد مذهب باطل، وأعظمه الكفر، فلا يكون تلفت منه بوجه إلى الحق، وذلك يورثه هيئة تمرنه على استحسانه المعاصي، واستقباحه الطاعات، وهو المعبر عنه بالطبع والختم في قوله: (ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ) [الجاثية:٢٣].
و(ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) [النحل: ١٠٨].
وبالأقفال في قوله: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ) [محمد: ٢٤]. إلى غير ذلك(57).
والكفر الذي يوجب الختم هو: عبارة عن جحود ما صرّح به الكتاب المنزل أنه من عند الله، أو جحود الكتاب نفسه، أو النبي الذي جاء به(58).
وبالجملة: إذا جحد ما علم من الدين بالضرورة بعدما بلغت الجاحد رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بلاغًا صحيحًا، وعرضت عليه الأدلة على صحتها لينظر فيها فأعرض عن شيء من ذلك وجحده عنادًا أو تساهلًا أو استهزاءً فقد كفر، فيكون عقوبته الختم، وهذا التعبير مثل لمن تمكن الكفر في قلوبهم حتى فقدوا الدواعي والأسباب التي تعطفهم إلى النظر والفكر في أدلة الإيمان ومحاسنه، فلا يدخلها غير ما رسخ فيها(59).
وقد أشار القرآن إلى الأسباب الباعثة على كفر الكافرين والتي يتولدّ عنها الطبع على قلوبهم ضمن سنن الله الثابتة، وهي ثلاثة أسباب:
السبب الأول: النفسية العدوانية، وفي الإشارة إلى هذا السبب يقول الله تعالى (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ) [يونس: ٧٤].
السبب الثاني: النفسية الجاهلة المنساقة مع الهوى، والتي لا تريد أن تعلم الحق خشية أن تنغص عليها المعرفة ما هي فيه من استغراق في الفجور، وفي الإشارة إلى هذا السبب يقول الله تعالى (ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ) [الروم: ٥٩].
السبب الثالث: النفسية المستكبرة الجبارة، وهذا أخطر الأسباب، ولذلك يكون الطبع بسببه عل كل قلب متكبّرٍ جبار، وفي الإشارة إلى هذا السبب يقول الله تعالى (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ) [غافر: ٣٥]. أي: لا يقتصر على الطبع على بعض قلبه، بل يكون عليه جميعًا(60).
وأسند الله تعالى الختم والطبع على قلوبهم وعلى سمعهم إليه؛ لأنه بيان لسنته تعالى في أمثالهم، وعبّر عنه بالماضي للدلالة على أنه أمر قد فرغ منه، وهو لا يدل على أنهم مجبورون على الكفر، ولا على منع الله تعالى إياهم منه بالقهر، وإنما هو تمثيل لسنته تعالى في تأثير تمرنهم على الكفر وأعماله في قلوبهم بأنه استحوذ عليها وملك أمرها حتى لم يعد فيها استعداد لغيره، كما تقدم مثله عن الراغب، ويوضح ما قلناه قوله تعالى في سورة المنافقين: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ) [المنافقون: ٣].
وقوله عن اليهود في سورة النساء: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ) [النساء: ١٥٥].
فذكر أن الطبع على قلوبهم إنما هو بسبب كفرهم وتلك المعاصي التي أسندها إليهم، وقوله تعالى في سورة الجاثية: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ) [الجاثية: ٢٣].
فذكر من فعله المسند إليه: أنه اتخذ إلهه هواه، ومن صار هواه معبوده لا يفيد معه شيء(61).
قال ابن القيم في حكم الطبع: «ومعلوم أن هذا ليس حكمًا يعم جميع الكفار، بل الذين آمنوا وصدقوا الرسل كان أكثرهم كفارًا قبل ذلك ولم يختم على قلوبهم وعلى أسماعهم، فهذه الآيات في حق أقوام مخصوصين من الكفار، فعل الله بهم ذلك عقوبة منه لهم في الدنيا بهذا النوع من العقوبة العاجلة، كما عاقب بعضهم بالمسخ قردة وخنازير وبعضهم بالطمس على أعينهم، فهو سبحانه يعاقب بالطمس على القلوب كما يعاقب بالطمس على الأعين وهو سبحانه قد يعاقب بالضلال عن الحق عقوبة دائمة مستمرة، وقد يعاقب به إلى وقت، ثم يعافي عبده ويهديه كما يعاقب بالعذاب كذلك»(62).
وقال رحمه الله في موضع آخر في قوله تعالى: (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ) [التوبة: ١١٥]: «فهذا الإضلال عقوبة منه لهم، حين بين لهم فلم يقبلوا ما بيّنه لهم ولم يعملوا. فعاقبهم بأن أضلهم عن الهدى، وما أضل الله سبحانه أحدًا قط إلا من بعد هذا البيان»(63).
وإذا عرفت هذا عرفت سر القدر، وزالت عنك شكوك كثيرة وشبهات في هذا الباب وعلمت حكمة الله في إضلاله من يضله من عباده، والقرآن يصرح بهذا في غير موضع، كقوله تعالى: (ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) [الصف: ٥].
(ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) فالأول: كفر عناد، والثاني: كفر طبع(64).
وقال صاحب المنار في قوله تعالى: (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) أي: كان كفرهم الشديد وما له من الأثر القبيح في أخلاقهم وأعمالهم، سببًا للطبع على قلوبهم، أي: جعلها كالسكة المطبوعة - الدراهم مثلًا- في قسوتها، وتكيفها بطبعة خاصة لا تقبل غيرها من النقوش، فهم بجمودهم على ذلك الكفر التقليدي، ولوازمه لا ينظرون في شيء آخر نظر استدلال واعتبار، ولا يتأملون فيه تأمل الإخلاص والاستبصار، وإنما النظر والتأمل من الأمور الممكنة التي ينالها كسبهم، ويصل إليها اختيارهم، ولكنهم لا يختارون إلا ما ألفوا وتعودوا(65).
وقال سيد قطب في تفسيره للآية: إنما هم كفرهم جرّ عليهم أن يطبع الله على قلوبهم، فإذا هي صلدة جامدة مغطاة، لا تستشعر نداوة الإيمان ولا تتذوق حلاوته، فلا يقع منهم الإيمان، إلا قليلًا، ممن لم يستحق بفعله، أن يطبع الله على قلبه. أي: أولئك الذين فتحوا قلوبهم للحق واستشرفوه، فهداهم الله إليه ورزقهم إياه(66).
ومن أسباب الطبع على القلوب: النفاق، والنفاق: وهو الدخول في الشرع من باب والخروج عنه من باب، وعلى ذلك نبه الله تعالى بقوله: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ) [التوبة: 67]. أي: الخارجون من الشرع، وجعل الله المنافقين شرًّا من الكافرين. فقال: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) [النساء: ١٤٥](67).
وقال الجرجاني: النفاق: «إظهار الإيمان باللسان، وكتمان الكفر بالقلب»(68).
وقال تعالى في المنافقين: (ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ) [التوبة: ٨٧].
ومثله في سورتهم، وقال سبحانه: (ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ) [الأعراف: ١٠٠].
أي: فهم بهذا الطبع لا يسمعون الحكم والنصائح سماع تفقه وتدبر واتعاظ، (ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ) [يونس:101] ما يراد منها؛ لأن قلوبهم قد ملئت بما يشغلهم عنها من آراء وأفكار وشهوات ملّكت عليها أمرها، حتى صرفتهم عن غيرها فجعلتهم من الأخسرين أعمالًا (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ) [الكهف:104](69).
إذًا النفاق والكفر صنوان كلاهما سبب للطبع، وعبّر بالطبع عمّا خلق في قلوبهم من الريب والشك وختم عليهم به من الكفر والمصير إلى النار(70).
وقال القرطبي في قوله تعالى: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) [المنافقون: ٣]: «هذا إعلام من الله تعالى بأن المنافق كافر. أي: أقرّوا باللسان ثم كفروا بالقلب»(71).
فالمنافقون عرفوا الإيمان، ولكنهم اختاروا العودة إلى الكفر. وما يعرف الإيمان ثم يعود إلى الكفر قلب فيه فقه، أو تذوق، أو حياة، وإلا فمن ذا الذي يذوق ويعرف، ويطلع على التصور الإيماني للوجود، وعلى التذوق الإيماني للحياة، ويتنفس في جو الإيمان الذكي، ويحيا في نور الإيمان الوضيء، ويتفيأ ظلال الإيمان الندية.
ثم يعود إلى الكفر الكالح الميت الخاوي المجدب الكنود؟ من ذا الذي يصنع هذا إلا المطموس الكنود الحقود، الذي لا يفقه ولا يحس ولا يشعر بهذا الفارق البعيد(72).
وكان سبب الطبع على قلوب المنافقين إقدامهم على الأعمال السيئة المتعجب من سوئها، وهو استخفافهم بالأيمان ومراجعتهم الكفر مرة بعد أخرى، فرسخ الكفر في نفوسهم فتجرّأت أنفسهم على الجرائم وضريت بها، حتى صارت قلوبهم كالمطبوع عليها أن لا يخلص إليها الخير(73).
قال ابن القيم في سياق حديثه عن المنافقين: «واعلم أنه كلما انقرض منهم طوائف خلفهم أمثالهم، فذكر أوصافهم لأوليائه ليكونوا منها على حذر. وبيّنها لهم فقال: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ)، فإنهم لما ردّوا الحق ورغبوا عنه عوقبوا بالطبع والرين وسلب العقل والفهم»(74).
«وإنما كانت عاقبة هذه الطبقة في الدرك الأسفل من النار؛ لغلظ كفرهم، فإنهم خالطوا المسلمين وعاشروهم، وباشروا من أعلام الرسالة وشواهد الإيمان ما لم يباشره البعداء، ووصل إليهم من معرفته وصحته ما لم يصل إلى المنابذين بالعداوة، فإذا كفروا مع هذه المعرفة والعلم كانوا أغلظ كفرًا وأخبث قلوبًا، وأشد عداوة لله ولرسوله وللمؤمنين من البعداء عنهم، وإن كان البعداء متصدين لحرب المسلمين»(75).
ولهذا قال تعالى في المنافقين: (ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) [البقرة: ١٨].
وقال تعالى في الكفار (ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) [البقرة: ١٧١]: فالكافر لم يعقل، والمنافق أبصر، ثم عمى وعرف، ثم تجاهل وأقرّ، ثم أنكر وآمن، ثم كفر، ومن كان هكذا كان أشد كفرًا وأخبث قلبًا وأعتى على الله ورسله، فاستحق الدرك الأسفل من النار(76).
ومن أسباب النفاق الذي يوجب الطبع على القلوب: عدم تدبر آيات الله تعالى، والإعراض عنها والكفر بها، قال تعالى: (ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ) [محمد: ٢٤].
والسياق يتحدث عن المنافقين، والأقفال استعارة لانغلاق القلب عن معرفة الحق، وإضافة الأقفال إلى القلوب للتنبيه على أن المراد بها ما هو للقلوب بمنزلة الأقفال للأبواب، ومعنى الآية أنه لا يدخل في قلوبهم الإيمان ولا يخرج منها الكفر والشرك؛ لأن الله سبحانه قد طبع عليها، والمراد بهذه القلوب قلوب هؤلاء المخاطبين، وهم المنافقون الذين قعدوا عن القتال(77).
ثانيًا: العناد والكبر:
ومن أسباب الطبع على القلوب، العناد والتكبر والتكذيب وعدم الإيمان بالله والرسول والطغيان، قال تعالى: (ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ) [يونس: ٧٤].
قال ابن عطية: «إنهم بادروا رسلهم بالتكذيب كلما جاء رسول ثم لجّوا في الكفر وتمادوا فلم يكونوا ليؤمنوا بما سبق به تكذيبهم، وقال بعض العلماء: عقوبة التكذيب الطبع على القلوب. ثم ابتدأ بقوله تعالى: (ﮬ ﮭ) أي كفعلنا هذا، و(ﮰ) هم الذين تجاوزوا طورهم واجترحوا ما لا يجوز لهم وهي هاهنا في الكفر(78).
قال الطبري في قوله تعالى: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ) [يونس: ٧٤]: «يقول تعالى ذكره: كما طبعنا على قلوب أولئك فختمنا عليها، فلم يكونوا يقبلون من أنبياء الله نصيحتهم، ولا يستجيبون لدعائهم إيّاهم إلى ربهم، بما اجترموا من الذنوب واكتسبوا من الآثام، كذلك نطبع على قلوب من اعتدى على ربّه، فتجاوز ما أمره به من توحيده، وخالف ما دعاهم إليه رسلهم من طاعته، عقوبة لهم على معصيتهم ربّهم من هؤلاء الآخرين من بعدهم»(79).
وقال الشنقيطي: إن الله جل وعلا بين في آيات كثيرة من كتابه العظيم: أن تلك الموانع التي يجعلها على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم، كالختم والطبع والغشاوة والأكنة، ونحو ذلك إنما جعلها عليهم جزاء وفاقًا لما بادروا إليه من الكفر وتكذيب الرسل، والإعراض عن آيات الله باختيارهم، فأزاغ الله قلوبهم بالطبع والأكنة ونحو ذلك(80).
ومعنى الاعتداء في الآية: أي أنهم لم ينظروا في آيات الله تعالى، وكفروا بما نزل إليهم من منهج، فهم أصحاب السبب في الطبع على القلوب بالاعتداء والإعراض. وجاء الطبع لتصميمهم على ما عشقوه وألفوه(81).
وترتب على إعراضهم عن الإيمان عنادًا واستكبارًا الطبع على القلوب، كما قال تعالى: (ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ) [الروم: ٥٩].
أي: مثل ذلك الختم وحجب الخير والحق يختم الله على قلوب الجهلة الذين لا يتعلمون ولا يعلمون حقيقة الآيات البينات في القرآن المجيد، لسوء استعدادهم، وإصرارهم على تقليد الأسلاف، واعتقاد الخرافات(82).
وفسر الاعتداء في الآية: أنه الظلم مع العناد والمجاوزة عن الحد الذي جعل(83). وقيل: معناه: الشرك ومجاوزة الحلال إلى الحرام(84).
وأما السبب الآخر للطبع على القلوب فهو «الكبر»، قال تعالى واصفا المتكبر والجبار والمجادل بالباطل: (ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ) [غافر: ٣٥].
أي: كما طبع الله على قلوب هؤلاء المجادلين، فكذلك يطبع على قلب كل متكبر جبار، فيصدر عنه أمثال ما ذكر من الإسراف والارتياب والمجادلة بغير حق، وقرئ بتنوين قلب، فما بعده صفته. ووصف القلب بالتكبر والتجبر؛ لأنه منبعهما(85).
قال الطبري في معنى الطبع على القلب المتكبر: «كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر على الله أن يوحده، ويصدّق رسله. (جبار) يعني: متعظم عن اتباع الحقّ»(86).
وقال الماتريدي: ويطبع الله على كل من تعود التكبر والتجبر على الآيات والرسل(87).
قال الزمخشري: وقرئ: «قلبٍ»(88)، بالتنوين. ووصف القلب بالتكبر والتجبر، لأنه مركزهما ومنبعهما، ونحوه قوله عز وجل: (ﭮ ﭯ ﭰ)[ البقرة: ٢٨٣].
وإن كان الآثم هو الجملة. ويجوز أن يكون على حذف المضاف. أي: على كل ذي قلب متكبر، تجعل الصفة لصاحب القلب(89). وقيل: أي: بمثل هذا الطبع والختم على قلب المتكبرين والجبارين، من فرعون وقومه- يطبع الله على قلب كل متكبر جبار من أهل الشرك، الذين يلقون محمدًا بالشك والارتياب والتكذيب(90).
وقيل في معنى الآية: ويتجبرون على الضعفاء بالإذلال والتسخير، والإهانة والقتل بغير حق.
قال الشعبي وغيره: لا يكون الإنسان جبارًا حتى يقتل نفسين. وقال قتادة: آية الجبابرة القتل بغير حق. وقال مقاتل: «متكبّرٍ» عن قبول التوحيد جبّارٍ في غير حق. فهو في الأول يعادي الله، وفي الثاني يقسو على خلق الله(91).
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)(92).
ثالثًا: اتباع الهوى والشهوات:
ومن الأسباب التي توجب الطبع والختم على القلب اتباع الهوى والشهوات والشبهات. فالهوى ما خالط شيئًا إلا أفسده، فإن وقع في العلم أخرجه إلى البدعة، والضلالة، وصار صاحبه من جملة أهل الأهواء. وإن وقع الهوى في الزهد أخرج صاحبه إلى الرياء، ومخالفة السنة. فما قارن الهوى شيئًا إلا أفسده، وهو يسري في القلب والأعضاء سريان السم في القلب والأعضاء(93).
والهوى: هو ميل النفس إلى الشهوة. وسمي بذلك؛ لأنه يهوي بصاحبه في الدنيا إلى كل داهية، وفي الآخرة إلى الهاوية(94). ولم يذكر الله تعالى الهوى في كتابه إلا ذمه.
والهوى قسمان: الأول: هوى الشبهات، والثاني: هوى الشهوات، فأما القسم الأول فهو أشد القسمين خطرًا؛ إذ ربما ترتّب عليه الخروج من الإسلام، وصاحبه بعيد عن التوبة؛ لأنه يعتقد أنه على صواب وهو ليس كذلك. وقد أخبر سبحانه وتعالى أن اتباع الهوى يضل عن سبيله فقال: (ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ) [ص: ٢٦](95).
وأخبر سبحانه وتعالى في موضع آخر أنه باتباع الهوى يطبع على قلب العبد فقال: (ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ) [محمد: ١٦].
وجعل الله سبحانه وتعالى متبع الهوى بمنزلة عابد الوثن فقال تعالى: (ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ) [الفرقان: ٤٣].
وقال سبحانه في موضع آخر (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ).
قال الحسن: هو المنافق لا يهوى شيئًا إلا ركبه، وقال أيضًا: المنافق عبد هواه لا يهوى شيئًا إلا فعله(96).
قال الطبري في قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ) [الجاثية: ٢٣]: «ومعنى ذلك: أفرأيت من اتخذ دينه بهواه، فلا يهوى شيئًا إلا ركبه، لأنه لا يؤمن بالله، ولا يحرّم ما حرّم، ولا يحلّل ما حلل، إنما دينه ما هويته نفسه يعمل به(97). وقيل: أي: هو مطواع لهوى النفس يتبع ما تدعوه إليه، فكأنه يعبده كما يعبد الرجل إلهه»(98).
فهذا فريق من الناس قد اتخذ إلهه هواه، فهو يعبد أهواء نفسه، فيطيعها في أوامرها ونواهيها، ويسارع في تحقيق مطالبها وشهواتها، ولو كان في ذلك أذاه وضرّه وهلاكه، ومن اتخذ إلهه هواه فقد ضل سواء السبيل، ومن ضل بجنوحه واتباعه أهواء نفسه أضلّه الله، فحكم عليه بالضلال حكمًا مبينًا على علم بواقع حالة الضال، وإذا وصل الإنسان إلى هذا المستوى من الضلال واتباع الهوى قسا قلبه، وران عليه ما كسب من إثم، فحجب عن إدراك الحقائق الدينية الربانية، وغلّف بغلاف شامل، وختم على هذا الغلاف، وكان شأن أدوات المعرفة لديه كشأن قلبه، فيختم على سمعه أيضًا، فلا يستمع إلى نصيحة، ولا يتقبل موعظة من مواعظ الهداية الربانية، ويجعل على بصره غشاوة، فلا يرى آيات علم الله وحكمته وعدله المنبثّة في الوجود(99).
قال الشعبي: إنما سمي الهوى هوى؛ لأنه يهوي بصاحبه في النار(100). وقال ابن عباس: ما ذكر الله هوى في القرآن إلا ذمه(101)، قال الله تعالى: (ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) [الأعراف: ١٧٦].
وقال تعالى: (ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ) [الكهف: ٢٨].
وقال تعالى: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ) [الروم: ٢٩].
وقال تعالى: (ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ) [القصص: ٥٠].
وقال تعالى: (ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ) [ص: ٢٦].
وثبت في الحديث الصحيح عن حذيفة بن اليمان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأيُّ قلب أُشْرِبها، نُكِتَ فيه نُكتةٌ سوداء، وأيُّ قلبٍ أنكرها، نُكِتَ فيه نُكتةٌ بيضاء، حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادًّا؛ كالكوز مجخيًّا، لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا، إلا ما أشرب من هواه)(102).
وروي عن شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم: (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت. والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله)(103).
إن التعبير القرآني في قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ) يرسم نموذجًا عجيبًا للنفس البشرية حين تترك الأصل الثابت، وتتبع الهوى المتقلب وحين تتعبد هواها، وتخضع له، وتجعله مصدر تصوراتها وأحكامها ومشاعرها وتحركاتها. وتقيمه إلها قاهرًا لها، مستوليًّا عليها، تتلقى إشاراته المتقلبة بالطاعة والتسليم والقبول. يرسم هذه الصورة ويعجّب منها في استنكار شديد: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ).
أفرأيته؟ إنه كائن عجيب يستحق الفرجة والتعجيب! وهو يستحق من الله أن يضله، فلا يتداركه برحمة الهدى. فما أبقى في قلبه مكانًا للهدى وهو يتعبد هواه المريض! (ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ) [الجاثية: ٢٣].
على علم من الله باستحقاقه للضلالة. أو على علم منه بالحق، لا يقوم لهواه ولا يصده عن اتخاذه إلهًا يطاع. وهذا يقتضي إضلال الله له والإملاء له في عماه (ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ) [الجاثية: ٢٣].
فانطمست فيه تلك المنافذ التي يدخل منها النور، وتلك المدارك التي يتسرب منها الهدى، وتعطلت فيه أدوات الإدراك بطاعة للهوى طاعته العبادة والتسليم (ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ) [الجاثية: ٢٣](104).
وجملة القول: إنّ من سننه تعالى في البشر أن من يتبع هواه في أعماله، ويستمرّ على ذلك ويدمنه الزمن الطويل، تضعف إرادته في هواه حتى تذوب وتفنى فيه، فلا تعود تؤثر فيه المواعظ القولية، ولا العبر المبصرة ولا المعقولة، وهذه الحالة يعبر عنها بالختم والرين والطبع على القلب، والصمم والعمى والبكم(105).
رابعًا: عدم الانتفاع بآيات الله في الآفاق:
ومن أسباب الطبع على القلوب عدم الانتفاع بآيات الله تعالى. سواء كانت هذه الآيات منظورة في الكون الفسيح أو مسطورة في القرآن الكريم كقصص الأمم السالفة. وقد أرشد الله تعالى الناس إلى التأمل والتفكر والتدبر ليقيم الحجة على خلقه بآياته الكونية -الأفقية والنفسية-، لذا نجده سبحانه وتعالى في كتابه الكريم يكثر من الاستدلال على العلم والقدرة والحكمة بأحوال السماوات والأرض وتعاقب الليل والنهار وكيفية تبدل الضياء بالظلام وبالعكس، وأحوال الشمس والقمر والنجوم، وأمر بالنظر في ملكوت السماء والأرض وبالتفكر فيهما.
وإن من أعظم أسباب الضلال عدم تدبر القرآن وترك التفكر في حال الرسول وعدم النظر في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله، قال تعالى: (ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ) [الأعراف: ١٨٥].
إنّ القلب محل التدبر والتفكر بآيات الله تعالى: (ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ) [محمد: ٢٤].
أي: بل على قلوب أقفال تمنع من التدبر والتفكر، وبه يتدبر آيات الله الكونية الخلقية في الآفاق وفي الأنفس، قال الله تعالى: (ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ) [الحج: ٤٦].
فبيّن سبحانه وتعالى أن المعتبر في الانتفاع بالآيات الخلقية والكونية في الأنفس والآفاق عقل القلوب وإبصارها.
قال الطبري: أفلم يسيروا هؤلاء المكذّبون بآيات الله والجاحدون قدرته في البلاد، فينظروا إلى مصارع ضربائهم من مكذّبي رسل الله الذين خلوا من قبلهم، كعاد وثمود وقوم لوط وشعيب، وأوطانهم ومساكنهم، فيتفكّروا فيها ويعتبروا بها ويعلموا بتدبرهم أمرها وأمر أهلها، سنة الله فيمن كفر وعبد غيره وكذّب رسله، فينيبوا من عتوّهم وكفرهم، ويكون لهم إذا تدبروا ذلك واعتبروا به وأنابوا إلى الحقّ (ﯪ ﯫ ﯬ) حجج الله على خلقه وقدرته على ما بيّنا (ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ) يقول: أو آذان تصغي لسماع الحقّ فتعي(106).
وذكر الزمخشري لطيفة في هذه الآية حيث قال: قد تعورف واعتقد أنّ العمى على الحقيقة مكانه البصر، وهو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها. واستعماله في القلب استعارة ومثل، فلما أريد إثبات ما هو خلاف المعتقد من نسبة العمى إلى القلوب حقيقة ونفيه عن الأبصار، احتاج هذا التصوير إلى زيادة تعيين وفضل تعريف، ليتقرّر أنّ مكان العمى هو القلوب لا الأبصار، كما تقول: ليس المضاء للسيف ولكنه للسانك الذي بين فكيك، فقولك: «الذي بين فكيك» تقرير لما ادّعيته للسانه وتثبيت؛ لأنّ محلّ المضاء هو هو لا غير، وكأنك قلت: ما نفيت المضاء عن السيف وأثبته للسانك فلتة وسهوًا، بل تعمدنا ذلك تعمدًا(107).
لقد أظهر الله تعالى اليأس من إيمانهم، لأن القلوب قد عميت، فلا تبصر الدلائل الكونية، ولا البراهين العقلية فقال: (ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ) [الحج: ٤٦](108).
ومما يؤكد ضرورة العناية بالقلب أنه هو المطية التي يقطع بها العبد سفر الآخرة، فإن السير إلى الله تعالى سير القلوب لا سير الأبدان. يقول الحافظ ابن رجب: الاعتبار بلين القلوب وتقواها وتطهيرها عن الآثام فسفر الدنيا ينقطع بسير الأبدان وسفر الآخرة ينقطع بسير القلوب. وقال بعض العارفين: إن سير القلوب أبلغ من سير الأبدان. كم من واصل ببدنه إلى البيت وقلبه منقطع عن رب البيت، وكم من قاعد على فراشه في بيته وقلبه متصل بالمحل الأعلى(109).
فمجرّد سماع القصص، ورؤية الآثار، والعلم بالأمم الخالية التي عوقبت لإعراضها، لا خير يرجى من ذاك ما لم يكن معه عبرة توصل إلى التوبة والتقوى؛ لذا بيّن تعالى أنّ العمى الضّارّ هو عمى البصيرة؛ لأنّها قوة فقه العبر، والنفاذ إلى المغزى، والتيقّن من الحق، والطمأنينة بالمعاينة القلبيّة؛ لذا بعدها يكون التذكر؛ لقوله تعالى: (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ) [ق: ٨].
فالتبصّر آلة البصر، والتذكرة آلة الذكر، وهما للعبد المنيب التائب، فيبصر مواقع الآيات، ومحال العبر؛ فيزول عنه العمى والغفلة فيتذكر؛ لأنّ التبصّر يوجب حصول صورة المدلول بعد الغفلة عنها، فيتذكّر فيكون من أولي الألباب، وهم أعلى من أولي الأبصار؛ لذا قيل: إن الله يحب ذا البصر النافذ عند ورود الشبهات، والعقل الكامل عند حلول الشهوات.
ومما تقدم نخلص إلى أنّ البصيرة خصّت بالعبرة، واللّبّ خصّ بالتذكّر، فالبصيرة نورٌ في القلب؛ لقوله تعالى: (ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ) [الحج: ٤٦].
فأمر بالسياحة في الأرض، وتأمّل آثار الأمم الغابرة، وما حلّ بها بعد أن عمرت في الأرض قرونًا، فذكر ما يتكامل به الاعتبار؛ لأنّ الرؤية لها حظٌّ عظيم في الاعتبار، مع الاستماع لقصص من مضى، ولكن لا يكمل الأمر إلاّ بالتدبّر بالقلب، «وعقل ذلك؛ بأن يعقل التّوحيد بما حصل له من الاستبصار والاعتبار»(110).
طرق تجنب الطبع
من المعلوم أن قلب المرء هو منطلق أعماله، فبصلاحه تصلح الأعمال عند الله وتزكو، وبفساده تفسد ولا ينتفع بها، ومن ثم فإن من فقه المرء ورجاحة عقله أن يحرص على سلامة قلبه ويجنبه دنس الشرك والآثام والذنوب، ولابد للمسلم أن يسلك الطرق التي تجنبه الطبع على القلوب لا سيما عندما تشرئب الفتن ويعظم الجهل بدين الله. وسنتحدث في المطالب الآتية عن أهم طرق تجنب الطبع والختم على القلوب، ومنها: الاستجابة لدواعي الحق سبحانه وتعالى في كتابه الكريم. ومعرفة الله تعالى والبصيرة في الدين. والانتفاع بآيات الله تعالى في الآفاق والأنفس، ومن ثم الاعتبار بالمصائب والمحن والشدائد فهي تمحص قلب المؤمن وتميز الخبيث من الطيب، لذلك ينبغي للمسلم أن يعرف هذه الطرق والوسائل كي يتجنب الطبع على قلبه.
أولًا: الاستجابة لدواعي الحق:
إن من أسباب شفاء القلوب من مرضها وتجنب الختم والطبع عليها الاستجابة لأوامر الله تعالى وما أنزله الله في كتابه.
قال تعالى: (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬ) [الحديد: ١٦].
فذكر الله تعالى وقراءة القرآن الكريم وتدبره والعمل بمقتضاه، تنجي القلب من قسوته وتجنبه الطبع والران الذي يصيبه.
قال ابن القيم رحمه الله: القرآن حياة القلوب، وشفاء لما في الصدور، فبالجملة لا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر، والتفكر، وهذا الذي يورث المحبة والشوق، والخوف، والرجاء، والإنابة، والتوكل، والرضى، والتفويض، والشكر، والصبر، وسائر الأحوال التي بها حياة القلب، وكماله، وكذلك يزجر عن جميع الصفات والأفعال المذمومة التي بها فساد القلب، وهلاكه، فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها (111).
وقال الحافظ ابن رجب: وفي الآية إشارة إلى أن من قدر على إحياء الأرض بعد موتها بوابل القطر فهو قادر على إحياء القلوب الميتة القاسية بالذكر، عسى لمحة من لمحات عطفه ونفحة من نفحات لطفه وقد صلح من القلوب كل ما فسد (112).
وقال تعالى: (ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ) [الأنفال: ٢٤].
قال الطبري: أي: استجيبوا للحق الذي جاءكم من الله عن طريق رسوله صلى الله عليه وسلم فإن الله تعالى أملك لقلوب عباده من أنفسهم، وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء، حتى لا يقدر ذو قلب أن يدرك به شيئًا من إيمان أو كفر، أو أن يعي به شيئًا، أو أن يفهم، إلا بإذنه ومشيئته. وذلك أن «الحول بين الشيء والشيء»، إنما هو الحجز بينهما، وإذا حجز جل ثناؤه بين عبد وقلبه في شيء أن يدركه أو يفهمه، لم يكن للعبد إلى إدراك ما قد منع الله قلبه إدراكه سبيلٌ(113).
وقيل في معنى الآية: إنه سبحانه قريب من قلبه لا تخفى عليه خافية. فهو بينه وبين قلبه. قال ابن القيم: وكان هذا أنسب بالسياق؛ لأن الاستجابة أصلها بالقلب فلا تنفع الاستجابة بالبدن دون القلب، فإن الله سبحانه بين العبد وبين قلبه. فيعلم هل استجاب له قلبه، وهل أضمر ذلك أو أضمر خلافه(114).
قال ابن القيم: إنّ الحياة النافعة إنما تحصل بالاستجابة لله ورسوله، فمن لم تحصل له هذه الاستجابة فلا حياة له وإن كانت له حياة بهيمية مشتركة بينه وبين أرذل الحيوانات، فالحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله والرسول ظاهرًا وباطنًا، فهؤلاء هم الأحياء وإن ماتوا، وغيرهم أموات وإن كانوا أحياء الأبدان، ولهذا كان أكمل الناس حياة أكملهم استجابة لدعوة الرسول والتي تتمثل بالإسلام والإيمان والقرآن والجهاد في سبيل الله(115). فمن استجاب فاز ونجا، ومن ترك الاستجابة عاقبه الله تعالى بأن يحول بينه وبين قلبه فلا يقدر على الاستجابة بعد ذلك، فيطبع ويختم على قلبه(116).
قال سيد قطب في تفسير قوله تعالى: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ) [الأنفال: ٢٤]: ويا لها من صورة رهيبة مخيفة للقدرة القاهرة اللطيفة. (ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ) فيفصل بينه وبين قلبه ويستحوذ على هذا القلب ويحتجزه، ويصرفه كيف شاء، ويقلبه كما يريد. وصاحبه لا يملك منه شيئًا وهو قلبه الذي بين جنبيه! إنها صورة رهيبة حقًّا يتمثلها القلب في النص القرآني، ولكن التعبير البشري يعجز عن تصوير إيقاعها في هذا القلب، ووصف هذا الإيقاع في العصب والحس! إنها صورة تستوجب اليقظة الدائمة، والحذر الدائم، والاحتياط الدائم. اليقظة لخلجات القلب وخفقاته ولفتاته والحذر من كل هاجسة فيه وكل ميل مخافة أن يكون انزلاقا والاحتياط الدائم للمزالق والهواتف والهواجس.. والتعلق الدائم بالله سبحانه مخافة أن يقلب هذا القلب في سهوة من سهواته، أو غفلة من غفلاته، أو دفعة من دفعاته.
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو رسول الله المعصوم يكثر من دعاء ربه: (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)(117). فكيف بالناس، وهم غير مرسلين ولا معصومين؟! إنها صورة تهز القلب حقًّا ويجد لها المؤمن رجفة في كيانه حين يخلو إليها لحظات، ناظرًا إلى قلبه الذي بين جنبيه، وهو في قبضة القاهر الجبار وهو لا يملك منه شيئًا، وإن كان يحمله بين جنبيه ويسير! صورة يعرضها على الذين آمنوا وهو يناديهم: (ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ) [الأنفال: ٢٤].
ليقول لهم: إن الله قادر على أن يقهركم على الهدى- لو كان يريد- وعلى الاستجابة التي يدعوكم إليها هذه الدعوة، ولكنّه سبحانه يكرمكم فيدعوكم لتستجيبوا عن طواعية تنالون عليها الأجر وعن إرادة تعلو بها إنسانيتكم وترتفع إلى مستوى الأمانة التي ناطها الله بهذا الخلق المسمى بالإنسان. أمانة الهداية المختارة وأمانة الخلافة الواعية، وأمانة الإرادة المتصرفة عن قصد ومعرفة(118).
ثانيًا: معرفة الله والبصيرة في الدين:
أما السبب الثاني من أسباب شفاء القلوب وصلاحها وحياتها وصحتها وتجنب الطبع أو الختم عليها هو أن يستقرّ فيها معرفة الله تعالى وعظمته، ومحبته وخشيته والإنابة إليه. قال سعيد بن إسماعيل رحمه الله: «صلاح القلب من أربع خصال: التواضع لله، والفقر إلى الله، والخوف من الله، والرجاء لله»(119).
ومعرفة الله سبحانه وتعالى تكون بالقلب والعقل معًا، فالتفكر في مخلوقات الله يكون بالعقل، ثم ينتقل من دائرة العقل إلى دائرة اليقين بالقلب، وقد قرنت الآيات القرآنية التفكر في خلق السماوات والأرض - وهذا يكون بالعقل - بالتوجه القلبي لذكر الله وعبادته فقال تعالى: (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) [آل عمران: ١٩٠ - ١٩١].
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: «الرب تعالى يدعو عباده في القرآن إلى معرفته من طريقين: أحدهما: النظر في مفعولاته، والثاني التفكر في آياته وتدبرها، فتلك آياته المشهودة، وهذه آياته المسموعة المعقولة»(120).
ولمعرفة الله عزوجل دور كبير في إخضاع القلب له سبحانه؛ لأنه بقدر المعرفة تكون العبودية، فنحن نحتاج لمعرفة الله عز وجل لتزداد خشيتنا له، وخوفنا منه، ورجاؤنا فيه، وتوكلنا عليه وغير ذلك من ألوان العبودية، وقد سأل موسى عليه السلام ربه: «يا رب أي عبادك أخشى لك؟ فقال: أعلمهم بي»(121).
وما أنزل القرآن الكريم وما بعث الرّسل إلا لشيء واحد كل شيء يندرج فيه، ألا وهو أن يعرّف بالرب تبارك وتعالى وأعظم التعريف برب العالمين جل جلاله توحيده، فما توحيده إلا ناجم عن المعرفة الحقة به، وقال أحمد بن عاصم: «من كان بالله أعرف كان من الله أخوف»(122). فأصل الدين معرفة الله؛ لأنك إذا عرفت الله، ثم عرفت أمره فإنك تتفانى في طاعته.
فالقلوب إذا لم يحركها معرفة الله عز وجل وتعظيمه، فإنّ العطب سيتمكن منها، والطبع والران سيكسوها، يقول ابن رجب رحمه الله: «فلا صلاح للقلوب حتى تستقر فيها معرفة الله وعظمته ومحبته وخشيته ومهابته ورجاؤه والتوكل عليه، وتمتلئ من ذلك، وهذا هو حقيقة التوحيد، وهو معنى (لا اله إلا الله)، فلا صلاح للقلوب حتى يكون إلهها الذي تألهه وتعرفه وتحبه وتخشاه هو الله وحده لا شريك له»(123).
وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه)(124). والمراد باستقامة إيمانه: استقامة أعمال جوارحه، فإن أعمال جوارحه لا تستقيم إلا باستقامة القلب، ومعنى استقامة القلب: أن يكون ممتلئًا من محبة الله، ومحبة طاعته، وكراهة معصيته(125).
يقول ابن القيم: «فكيف بالمحبة التي هي حياة القلوب وغذاء الأرواح؟ وليس للقلب لذة ولا نعيم ولا فرح ولا حياة إلا بها، وإذا فقدها القلب كان ألمه أعظم من ألم العين إذا فقدت نورها، بل فساد القلب إذا خلا من محبة فاطره وبارئه»(126).
فمن أعظم وسائل علاج القلب وصحته وسلامته من الأمراض: أن يمتلئ قلب الإنسان بمحبة الله.
يقول ابن القيم رحمه الله: فالقلب لا يفلح ولا يصلح ولا ينعم ولا يتلذذ ولا يسكن، إلا بعبادة ربه وحبه، والإنابة إليه، ولو حصل له جميع ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن إليها، ولم يسكن إليها، بل لا تزيده إلا فاقةً وقلقًا حتى يظفر بما خلق له، وهي له: من كون الله وحده نهاية مراده، وغاية مطالبه، وكلما تمكنت محبة الله من القلب وقويت فيه أخرجت منه تألّهه لما سواه وعبوديته له(127).
فالمسلم لا بد أن يعبد الله على بصيرة؛ لأنها تقوده إلى الفهم الثاقب الصحيح في دين الله كونها أساس السعادة ومنبع الخير، وتكمن أهمية البصيرة في دين الله عزوجل باكتساب الثقة في النفس والطمأنينة وانشراح الصدر.
ولأهمية البصيرة في الدين فقد جعلها ابن القيم رحمه الله المنزلة الثانية من منازل (ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ) حيث يقول: «فالبصيرة نور يقذفه الله في القلب، يرى به حقيقة ما أخبرت به الرسل، كأنه يشاهده رأي العين، فيتحقق مع ذلك انتفاعه بما دعت إليه الرسل، وتضرره بمخالفتهم، وهذا معنى قول بعض العارفين: البصيرة تحقق الانتفاع بالشيء والتضرر به»(128).
ولقد ذكر الله عز وجل البصيرة في كتابه العزيز بل وربطها بمقام الدعوة الذي هو من أجل المقامات حيث قال عزوجل: (ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ) [يوسف: ١٠٨].
جاء في لسان العرب: البصيرة الحجة والاستبصار من الشيء. والبصر نفاذ في القلب، وبصر القلب نظره وخاطره، والبصيرة هي عقيدة القلب(129).
وقال الراغب الأصفهاني: يقال لقوة القلب المدركة: بصيرة وبصر، وجمع البصر أبصار، وجمع البصيرة بصائر، ومنه (ﮇ ﮈ) أي: معرفة وتحقق(130).
وذكر الكفوي رحمه الله أن البصيرة: «قوة في القلب تدرك بها المعقولات، وقوة القلب المدركة بصيرة»(131).
وقال القرطبي: أي: «على يقين وحق»(132).
وقال البيضاوي: «أي: بيان وحجة واضحة غير عمياء»(133).
وقال الإمام البغوي: «البصيرة هي المعرفة التي تميز بها الحق والباطل»(134).
وقال الإمام البقاعي (ﮇ ﮈ) أي: «حجة واضحة من أمري، بنظري الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة، وترك التقليد الدال على الغباوة والجمود، لأن البصيرة المعرفة التي يتميز بها الحق من الباطل دينًا ودنيا بحيث يكون كأنه يبصر المعنى بالعين»(135).
فالبصيرة هي الدليل الواضح من غير لبس فيه، الذي يعصم الإنسان من الزلل والشطط والانحراف، ويهديه الى جادة الصواب ويصحح سلوكه، والبصيرة هي الدين والبيان، وهي العلم الذي تميز به الحق والباطل، بل هي النور الذي يبصر به القلب والحجة التي تدرك بها الحقائق العملية.
والبصيرة فعلها ووظيفتها التبصر، وهذه درجة قبل التذكر، فهي نور في القلب يبصر به، فيقوم في قلبه شواهد الحق ويرى حقيقة ما يبلغه ويخبر به عن طريق الرسل، فالبصيرة هي ما يخلصك من الحيرة، فمن عرفها ورزقها وذاقها فإنه يسير في حياته على هدى من ربه ويقين، من غير شك ولا شبهة ولا اضطراب.
فهناك بصر وبصيرة، وهناك رؤية عينية ورؤية قلبية، فقد يمر الإنسان ببصره على كثير من الآيات والدلائل على القدرة الإلهية ولا يحسّ بها ولا يدرك حقيقتها؛ لأن بصيرته مظلمة، ولأن قلبه أعمى، وقد تنكشف الحقائق فيراها أمامه جلية واضحة، يراها بقلبه، يراها ببصيرته، التي في أعماق نفسه، فيدرك أبعادها ويفهم دقائقها فيعرف ما ورائها من حكمة.
والبصيرة في الدين من أعظم ما يرزق به المتقي، حيث تكون له بصيرة وفرقان يفرّق به بين الحق والباطل وأن يكون له نورًا يضيء دربه فيحذر الشر ويرجو الخير.
وختامًا يمكن القول: إن معرفة الله والبصيرة في الدين هي خير دواء للقلوب من أمراضها؛ لأنها تجعل القلب دائم الحضور مع الله، حتى يصبح القلب حيًّا أبيض يشعّ النور من جنباته؛ لأن البصيرة في الدين هي الرؤية الإيمانية التي تضيء القلوب بنور الإيمان، فيرى الوجود بعين البصيرة لا بعين البصر، لأن القلب البصير أصبح يعقل ويدرك فتتكشف أمامه الحقائق كما يسلط النور على الأشياء فتتضح وسط الظلمة.
ثالثًا: لزوم التقوى والعمل الصالح:
ومن أوجه التقوى: تنزيه القلب عن الذنوب، وهذه هي الحقيقة في التقوى، ألا ترى في قوله تعالى: (ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ) [النور: ٥٢].
فالملاحظ هنا أن الله تعالى ذكر الطاعة والخشية ثم ذكر التقوى، فعلم بهذا أن حقيقة التقوى بمعنى غير الطاعة والخشية، وهي تنزيه القلب عن ذنب لم يسبق منك مثله (136).
وأما المعنى الاصطلاحي للتقوى فقد عرفها العلماء بتعاريف عديدة فمن ذلك قال الإمام ابن القيم رحمه الله: «وأما التقوى: فحقيقتها العمل بطاعة الله إيمانًا واحتسابًا، أمرًا ونهيًا، فيفعل ما أمر الله به، إيمانًا بالأمر وتصديقًا بوعده، ويترك ما نهى الله عنه إيمانًا بالناهي وخوفًا من وعيده»(137). وقال الإمام ابن عطية: التقوى: أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية(138).
ومما قيل في حقيقة التقوى: ما قاله طلق بن حبيب: «التقوى عمل بطاعة الله، على نور من الله، رجاء رحمة الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، خيفة عذاب الله»(139).
قال الحافظ الذهبي معلقًا على قول طلق: في التقوى: «أبدع وأوجز، فلا تقوى إلا بعمل، ولا عمل إلا بتروٍّ من العلم والإتباع، ولا ينفع ذلك إلا بالإخلاص لله، لا ليقال: فلان تارك للمعاصي بنور الفقه، إذ المعاصي يفتقر اجتنابها إلى معرفتها، ويكون الترك خوفًا من الله، لا ليمدح بتركها، فمن دوام على هذه الوصية فقد فاز»(140).
وسأل عمر بن الخطاب أبي بن كعب رضي الله عنهما عن التقوى فقال: أما سلكت طريقًا ذا شوك؟ قال: نعم. قال: فما عملت؟ قال: شمّرت واجتهدت، قال: فذلك التقوى(141).
وخير لباس يتزود به العبد الصالح لمرحلة الآخرة هو التقوى والعمل الصالح، مما يؤكد هذا الكلام قوله تعالى: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ) [الأعراف: ٢٦].
فبعد أن تمنن الله عز وجل على عباده بأن جعل لهم من اللباس والريش، ما يستر به العورات، دلّهم على أفضل لباس، وهو ما يواري عورات الظاهر والباطن ويتجمل به وهو لباس التقوى (142). قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: (ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ) : «هو العمل الصالح»(143). وقيل: السمت الحسن في الوجه(144). وقيل: ما علمه الله عزوجل وهدي به، وقيل: ستر العورة للصلاة، التي هي التقوى. وقيل: الحياء(145).
وقد جمع الإمام الطبري رحمه الله بين هذه المعاني جميعًا وعلّل ذلك بقوله: «لأن من اتقى الله كان به مؤمنًا، وبما أمره به عاملًا، ومنه خائفًا، وله مراقبًا، ومن أن يرى عندما يكرهه مستحيًا، ومن كان كذلك ظهرت آثار الخير فيه، فحسن سمته وهديه، ورئيت عليه بهجة الإيمان ونوره»(146).
والتقوى كما ذكر القرآن الكريم أصلها في القلب، وثمرتها على الجوارح بأداء الفرائض والنوافل واجتناب المحرمات، والتقوى في الحقيقة تقوى القلوب لا تقوى الجوارح؛ لأن العبد إنما يقطع منازل السير إلى الله بقلبه وهمته لا ببدنه(147). قال تعالى: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ) [الحج: ٣٢].
يقول سيد قطب: «إن التقوى زاد القلوب والأرواح منه تقتات، وبه تتقوى وترف وتشرف، وعليه تستند في الوصول والنجاة وأولوا الألباب هم أول من يدرك التوجيه إلى التقوى وخير من ينتفع بهذا الزاد»(148).
والتقوى للقلب كجهاز المناعة للبدن، فكلاهما يدرك ويواجه أسباب المرض، وتنشأ التقوى من الإيمان بالله وخشيته والعلم بما أنزله من أحكام وحدود، فبالتقوى يدرك القلب إلقاءات الشيطان بسرعة، فإذا همّ بالذنب أو أصابه تذكر وعد الله ووعيده، وأبصر غواية الشيطان، فيستغفر الله من قريب، وبهذا يقي نفسه التعرض لسخط الله وعقابه، أما غير التقي فيترك الفتنة تدمر قلبه كما تدمر الجراثيم عضوًا في الجسد لضعف جهاز المناعة(149)، قال تعالى: (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) [الأعراف: ٢٠١].
فإذا ما طاف الشيطان بالمس للذين اتقوا تذكروا خالق الشيطان وخالقهم، وتذكروا منهج الله الذي يصادم شهواتهم، وتذكروا إن عين الله تراهم ولا تغفل عنهم(150).
فالتقوى تجعل القلب نورًا لكشف الشبهات، ويزيل الوساوس والأوهام، ويثبّت الأقدام على الطريق الشائك الطويل، بل إنها لتجعل قلب المؤمن مرجعًا عند التباس الأمور، واضطراب الموازين والأفهام، وهي تجعل في قلب المؤمن فرقانًا يكشف له معالم الطريق إلى الله، ولا يعرف هذه الحقيقة إلا من ذاقها وأخلص في التعامل معها، وغمرت مخافة الله وتقواه فؤاده(151).
والتقوى تفتح مغاليق القلوب، قال تعالى: (ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ) [البقرة: ٢٨٢].
وهداية القرآن لا تكون بغير ذوي النفوس التقية، والقلوب الزكية تتوقى الضلالة، وتتجنب سبل الغواية، وبالتقوى يكون الفرقان بين الحق والباطل، وبها العرفان الذي تتجلى به الأمور، والنور الذي يشرح به الصدور.
قال تعالى: (ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠ ﯡ) [الحديد: ٢٨].
وقال تعالى: (ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ) [الأنفال: ٢٩].
فالتقوى هي فرقان القلب و(الفرقان) هو: «النصر؛ لأنه يفرق بين الحق والباطل»(152). وعن ابن عباس رضي الله عنهما (ﮄ): «مخرجًا، وزاد مجاهد في الدنيا والآخرة»(153).
وحقيقة التقوى أنها حالة قلبية، تقوم على خشية الله ومراقبته، وتعظيم أمره ونهيه، تبعث صاحبها على فعل ما يحب الله ويرضى، والمسارعة فيه، واجتناب ما يسخطه والبعد عنه، ومحلها القلب، والقلب يضخّ آثارها على سائر الجوارح والأعضاء، كما يضخّ الدم من القلب، فينشر في سائر الجسد، فتعمل أجهزته، وتحيا به خلاياه(154).
قال أبو حاتم: «العاقل يدبر أحواله بصحة الورع، ويمضي لسانه بلزوم التقوى؛ لأن ذلك أول شعب العقل، وليس إليه سبيل إلا بصلاح القلب»(155).
واعتبر القرآن الكريم القلب مركزًا لسلسلة من الإلهامات والإلقاءات الإلهية، حيث إن كل إنسان وفي أي مستوى محافظ على طهارته القلبية، وعامل منقذ لها، فإن هذا المركز سيكون طريقًا للخلاص من جميع الأمراض ولا سيما الطبع على القلوب.
وكما أن القلب يتعرض للأمراض والعلل، فإن هذا القلب يحصل له من الأحوال الإيمانية، والمقامات التعبدية، من الصفحات المحمودة مثل: اللين، والإخبات، والخشوع، والإخلاص، والحب، والتقوى، والثبات، والخوف والرجاء والإنابة، والنتيجة سلامة القلب التي قال عنها الخالق سبحانه: (ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ) [الشعراء: ٨٩].
فالحياة الإيمانية صفة قلب صاحبه أبيض.
فالتقوى هي الدواء لكل الأمراض التي يصاب بها القلب كالجهل والنفاق والحقد والتكبر وغير ذلك، والتقوى هي العلاج الوحيد الواقي من هذه الأمراض، فهي تزيد مرآة القلب جلاءً وإشراقًا، ونورًا وضياءً حتى يتلألأ(156).
فالواجب على العاقل أن لا ينسى تعاهد قلبه بترك ورود السبب الذي يورث القساوة له عليه؛ لأنه بصلاح الملك تصلح الجنود، وبفساده تفسد الجنود، فإذا اهتم بإحدى الخصلتين تجنب أقربها عن هواه، وتوخى أبعدها من الردى، فلا بد من إصلاح السرائر، وترك إفساد الضمائر، والواجب على العاقل الاهتمام بإصلاح سريرته، والقيام بحراسة قلبه عند إقباله وإدباره، وحركته وسكونه، لأن تكدر الأوقات، وتنقص اللذات، لا يكون إلا عند فساده(157).
قال مالك بن دينار رحمه الله: إن القلب إن لم يكن فيه حزن خرب، كما يخرب البيت إذا لم يكن فيه ساكن، وإنّ قلوب الأبرار تغلي بأعمال البر، وإن قلوب الفجار تغلي بأعمال الفجور، والله يرى همومكم، فأنظروا ما همومكم ؟ رحمكم الله(158).
والمتأمل لآيات القران الكريم يجد أن الله عز وجل ربط عدم السماع بالطبع بالذنوب، فقال تعالى (ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ) [الأعراف: ١٠٠].
كما ربط السماع بالتقوى فقال تعالى: (ﰂ ﰃ ﰄ) [المائدة: ١٠٨].
وخلاصة المقال: إن القلب إذا زاد نوره بالتقوى والعمل الصالح ينيب إلى الله، ويحب الطاعات ويكره المعاصي، وبالإيمان وبتقوى الله وامتثال أوامره في كل حال يزيد نور القلب، وبالكفر والمعاصي يزيد ظلام القلب والطبع عليه(159)؛ لأن التقوى هي التي تحبب الوازع الديني في النفس، فلا يحتاج صاحبها بعد ذلك إلى رقيب أو حسيب، فهي كالحاجز للمسلم من كل شر وسوء، والدافعة إلى كل خير.
رابعًا: الانتفاع بآيات الله في الآفاق والأنفس:
ومن الأسباب الأخرى التي تؤدي إلى شفاء القلوب من أمراضها وتمنع الطبع عليها الانتفاع بآيات الله في الآفاق والأنفس، إذ إن التفكر في مخلوقات الله تعالى والتدبر والتأمل في كتاب الكون المفتوح، وتتبع قدرة الله المبدعة وهي تحرّك هذا الكون، وتقلب صفحاته من شأنه أن يجعل القلب دائم الصلة بالله، فيملؤه بالخوف والرجاء والتعظيم والتوكل والاستسلام لله عز وجل.
إن التفكر والانتفاع بآيات الله في الآفاق والأنفس ومعرفة الله عزوجل، إنما ينشأ من توجيه القلب إلى الله تعالى وإيقاظه لرؤية آلائه، أمام هذا الخلق الهائل العجيب، من خلال رؤية مخلوقاته، وعجائب قدرته وبديع صنعه، ورؤية آثار رحمته ومظاهر قدرته، وقوته وبطشه في إهلاك الظالمين على مرّ القرون والأزمان(160).
وآيات الله في الآفاق والأنفس، تعدّ بابًا واسعًا من أبواب الإيمان الحق بالله تعالى، وطريقًا إلى خشيته وطاعته، فالباحث في العلم يوقن، والمتأمل في الكون يشعر حينما يقرأ آيات القرآن الكريم المتعلقة بخلق الكون والإنسان، يوقن بأن القرآن الكريم مستحيل أن يأتي به بشر، ومصداق هذا قوله تعالى: (ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ) [فصلت: ٥٣].
إن القرآن الكريم يدعونا إلى التأمل والتدبر والنظر في آيات الله تعالى في عالم الطبيعة والخلق -آفاق الكون وأغوار النفس- ويعد هذا النظر والتفكر جديرًا بأهل الفكر والألباب وأصحاب الضمائر الحية والقلوب السليمة، وكثيرًا ما تأتي اللفتات الكريمة في القرآن الكريم إلى آيات الله وعظيم صنعه، وكريم لطفه وإحسانه، ثم تذيل هذه الآيات بقوله: (ﮑ ﮒ) [المؤمنون:80]، (ﮓ ﮔ) [يونس:3].
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) [البقرة:١٦٤].
وقال تعالى: (ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ) [الرعد: ٣].
وشفاء القلوب من الطبع عليها إنما يكون بتحصين القلوب بالإيمان واليقين من خلال تفكر الإنسان بآيات الله في الآفاق والأنفس والانتفاع بها، فالإيمان هو الذي يفتح القلوب لتلقي الأصداء، والأضواء، ورؤية النعيم والآلاء، يقول الإمام ابن القيم: كلما قوي الإيمان وازداد نوره في القلب، أحسّ المرء بانشراح في صدره، وتضائل شعوره بالضيق، فإذا ما استمرّ النور في دخول القلب، ازدادت مساحة الإيمان فيه، وشيئًا فشيئًا تصبح مساحة الإيمان في القلب أكثر فأكثر اتساعًا من غيرها، فيحدث حدث مهم ومادي يشعر به المرء في لحظة سعيدة من لحظات عمره، ألا وهو شعوره بتحرك قلبه في صدره حركة سريعة ومضطربة، وهذا ما يسمى بولادة القلب الحي أو الولادة الثانية(161).
فالإيمان له آثار ايجابية في حياة الإنسان، والقلب إذا استنار بنور الإيمان انعكست آثار ذلك على الإنسان، فترى الطمأنينة تملأ قلبه، وهذا الإيمان يجعل الإنسان في رقابة على نفسه من داخله.
إن تأمل آيات الله في الآفاق والأنفس يوقظ القلوب، ويفتح مغاليقها، ويوجه القلب إلى تعظيم مبدع هذا الكون.
قال تعالى: (ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ) [الجاثية: ٣ - ٥].
إنّ آيات الله في الكون لا تتجلى عن حقيقتها إلا للقلوب الذاكرة العابدة، فالذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا ويتفكرون في خلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار، هم الذين تنفتح لبصائرهم الحقائق الكبرى المنطوية في خلق السماوات والأرض، بخلاف الكثير من الناس الذين يمّرون على آيات الله تعالى، وهم عنها غافلون، فلا قلب يعقل، ولا عين تبصر، ولا آذان تسمع، ولا فؤاد يهتز، ولا ضمير ينيب.
قال تعالى عن هذا الصنف من الناس: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) [الأعراف: ١٧٩].
أما أصحاب القلوب السليمة من الأمراض فهي تحيا مع آيات الله بآذان صاغية، وعيون راعية، وقلوب واعية.
قال تعالى: (ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ) [الفرقان: ٧٣].
فهو ينظر إليها بعقله، وينتفع بهديها ويستضيء بنورها، فهو ينظر الى آيات الله على أنها ناطقة بوجود الله ووحدانيته، بل هي أبلغ بيان ينطق بصفات الله تعالى وعظيم آلائه.
وقد أثنى الله سبحانه وتعالى على عباده المتفكرين في مخلوقاته ومدحهم؛ لأن تفكّرهم فيها أوصلهم إلى شهادته بأنه تعالى لم يخلقهم باطلًا بل أحدث في قلوبهم مزيدًا من الخشية والإنابة.
قال تعالى: (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) [آل عمران: ١٩٠ - ١٩١].
والمعنى: تدبروا أيها الناس واعتبروا، فيما أنشأته فخلقته من السماوات والأرض، لمعاشكم وأقواتكم وأرزاقكم، وفيما عقّبت بينه من الليل والنهار، فجعلتهما يختلفان ويعتقبان عليكم، تتصرفون في هذا لمعاشكم، وتسكنون في هذا لراحة أجسامكم، معتبر ومدكر، وآيات واعظات، لمن كان منكم ذا لب وعقل(162).
قال الرازي: «اعلم أن المقصود من هذا الكتاب الكريم جذب القلوب، والأرواح من الاشتغال بالخلق إلى الاستغراق في معرفة الحق، فلما طال الكلام في تقرير الأحكام، والجواب على شبهات المبطلين، عاد إلى إنارة القلوب بذكر ما يدل على التوحيد، والإلهية، والكبرياء، والجلال، فذكر هذه الآيات»(163).
فالتفكر يذهب الغفلة ويحدث في القلب الخشية، كما يحدث الماء للزرع النبات، وما جليت القلوب بمثل الأحزان ولا استنارت بمثل الفكرة، إذ إن التفكر في أمر الله هو من عمل القلوب(164).
وما أحسن ما قاله الزمخشري في وصف أولي الألباب بقوله: «الذين يفتحون بصائرهم للنظر والاستلال والاعتبار، ولا ينظرون إليها نظر البهائم غافلين عما فيها من عجائب الفطر»(165).
والقرآن الكريم يوجه القلوب والأنظار توجيهًا مكررًا مؤكدًا إلى هذا الكتاب المفتوح الذي لا تفتأ صفحاته تقلب، فتبتدي في كل صفحة آية موصية، تستجيش في الفطرة السلمية إحساسًا بالحق المستمر في صفحات هذا الكتاب، وأولوا الإدراك الصحيح هم الذين يتفكرون بآيات الله وينتفعون بها ولا يقيمون الحواجز، ولا يغلقون المنافذ بينهم وبين هذه الآيات، فهم يتوجهون الى الله بقلوبهم قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم، فتتفتح بصائرهم، وتشف مداركهم، وتتصل بحقيقة الكون التي أودعها الله إياه(166).
وأولوا الألباب هم الذين ينظرون ويستفيدون ويهتدون ويستحضرون عظمة الله ويتذاكرون حكمته وفضله وجليل نعمه في جميع أحوالهم، وهم الذين لا يغفلون عن الله تعالى في عامة أوقاتهم؛ لأن قلوبهم مطمئنة بذكره تعالى ومراقبته، وخص الخالق سبحانه وتعالى في هذه الآيات أولي الألباب، وهم أصحاب العقول، لأنهم هم المنتفعون بها، الناظرون إليها بعقولهم وقلوبهم لا بأبصارهم(167).
كما أن في خلق الله تعالى للإنسان آية للمتوسمين، وعبرة للمعتبرين، وعظة للمتعظين.
يقول سبحانه: (ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ) [الذاريات: ٢١].
أي: أفلا تنظرون نظر من يعتبر في اختلاف الألسنة والألوان، والتفاوت في العقول والإفهام، واختلاف الأعضاء، وتعدد وظائف كل منها على وجه يحتار فيه اللب، ويدهش منه العقل(168).
يقول سيد قطب: «وهذا المخلوق الإنساني هو العجيبة الكبرى في الأرض، ولكنه يغفل عن قيمته وعن أسراره الكامنة في كيانه، حين يغفل قلبه عن الإيمان وحين يحرم نعمة اليقين»(169).
والنص القرآني يريد أن يوقظ القلب البشري للتأمل والتدبر واستجلاء العجائب، غير أنه لا يدرك هذه العجائب إلا القلب العامر باليقين، فلمسة اليقين هي التي تحيي القلوب(170).
يقول ابن القيم: «لما كان أقرب الأشياء إلى الإنسان نفسه دعاه خالقه وبارئه ومصوّره وفاطره من قطرة ماء إلى التبصر والتفكر في نفسه، فإذا تفكّر الإنسان في نفسه استنارت له آيات الربوبية وسطعت له أنوار اليقين واضمحلّت عنه غمرات الشك والريب، وانقشعت عنه ظلمات الجهل، فإنه إذا نظر في نفسه وجد آثار التدبير فيه قائمات، وأدلة التوحيد على ربه ناطقات، شاهدة لمدبره، دالة عليه، مرشدة إليه»(171).
فلا بد للمسلم صاحب القلب الحي أن يتأمل في آيات الله في الأفاق والأنفس وأن ينتفع بها؛ لأن الله تعالى فضّله عن باقي خلقه بنعمة القلب والعقل، والسمع والبصر، والفؤاد، فالإنسان الحي هو من أحيا قلبه بالتدبر والتفكر والانتفاع من ذلك؛ لأن في ذلك شفاء للقلوب المريضة.
إذ ليس الهدف من نزول القرآن الكريم التلاوة والتلفظ باللسان، بل لكي تكون آياته منبعًا للفكر والتدبر وسببًا ليقظة الوجدان.
قال تعالى: (ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ) [ص: ٢٩].
وتدبر القرآن الكريم هو تحديق نظر القلب إلى معانيه، وجمع الفكر على تدبره وتعقله، إذ إن قلب المتدبر للقرآن، ينتابه تطلّع وتشرّق، كما ينتاب المريض شعور بالبحث عن العلاج، أو كما ينتاب الحائر شعور بالبحث عن الدلالة والهداية.
خامسًا: الاعتبار بالمصائب والمحن:
ومن أسباب شفاء القلوب من مرضها وتجنب الطبع عليها هو الاعتبار بالمصائب والمحن التي تمرّ بها القلوب عند الشدائد، إذ إنّ للقلوب أهمية عظيمة عند الشدائد والمحن، وينبغي للمسلم أن تكون تصرفاته صحيحة غير طائشة، بل يجب أن تكون منضبطة بنور شريعة الإسلام، ولابد لنور القلوب أن يشعشع في قلوب المسلمين أوقات الشدائد.
فالمؤمن الذي يريد أن يتجنب الطبع على قلبه لا بد له أن يستحضر في عقله أنواع المصائب والمحن ويقدر وقوعها، وعلى تقديرها ووقوعها يرضى بها؛ لأن الرضا بقضاء الله تعالى واجب، فعند وقوعها لا يستعظمها، بل تكون له عبرة يتعظ بها، بخلاف الجاهل فإنه يكون غافلًا عن تلك المعارف فعند وقوع المصائب يعظم تأثيرها في قلبه، بخلاف قلب المؤمن الذي يكون دائمًا منشرحًا بنور معرفة الله تعالى، والقلب إذا كان مملوءًا من هذه المعارف، لم يتّسع للأحزان الواقعة بسبب أحوال الدنيا، وسيكون قلبه سليمًا من جميع أمراض القلوب، أما قلب الجاهل فإنه خال من معرفة الله تعالى، فلا جرم يصير مملوءًا من الأحزان الواقعة بسبب مصائب الدنيا.
والقلوب السليمة حينما تسمع القصص وترى أثار الأمم الخالية التي عاقبها الله تعالى لإعراضها، حتمًا ستكون هذه المشاهد عبرة لها وموعظة، قال تعالى واصفًا هذه القلوب السليمة: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ) [ق: ٣٧].
قال ابن زيد في تفسير قوله تعالى: (ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) أي: قلب يعقل ما قد سمع من الأحاديث التي ضرب الله بها من عصاه من الأمم(172). وبين ابن أبي زمنين أن الخطاب هنا هو خاص بقلب المؤمن(173). الذي صرف قلبه إلى التفهم، فهو في حضور دائم مع الله ولا يغفل عنه طرفة عين.
وقال السمرقندي في تفسيره للآية: «أي: لمن كان له عقل؛ لأن محل العقل هو القلب»(174). فكنى بالقلب؛ لأنه موضعه.
وقال الزمخشري في قوله تعالى: (ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) أي: «لمن كان له قلب واع؛ لأن من لا يعي قلبه فكأنه لا قلب له»(175).
قال يحيى بن معاذ: القلب قلبان، قلب محشّ بأشغال الدنيا حتى إذا حضر أمر من أمور الآخرة لم يدر ما يصنع، وقلب قد احتشى بأهوال الآخرة حتى إذا حضر أمر من أمور الدنيا لم يدر ما يصنع لذهاب قلبه في الآخرة(176).
وفسر الرازي قوله تعالى: (ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) بأن المراد: قلب موصوف بالوعي، أي: لمن كان له قلبًا سليمًا أدرك الحقائق وتفكر كما ينبغي، فكأنه تعالى قال: إن في ذلك لذكرى وعبرة لمن يصلح أن يقال: له قلب، وحينئذ فمن لا يتذكّر ولا يتعظ لا قلب له أصلًا، كما في قوله تعالى: (ﭣ ﭤ ﭥ) [البقرة: ١٨].
حيث لم تكن آذانهم وألسنتهم وأعينهم مفيدة لما يطلب منها، كذلك من لا يتذكر كأنه لا قلب له، كالجمادات لها صور وليس لها قلوب للذكر ولا لسان للشكر(177).
وفي قوله تعالى: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ) لطيفة حيث أتى الخالق عزوجل بـ (أو) لتقسيم المتذكر إلى تال وسامع، أو إلى فقيه ومتعلم، أو إلى عالم كامل الاستعداد لا يحتاج لغير التأمل فيما عنده، وقاصر محتاج للتعلم، فيتذكر إذا أقبل بكليته، وأزال الموانع بأسرها، وفي تنكير (قلب) وإبهامه، تفخيم وإشعار بأنّ كل قلب لا يتفكر ولا يتدبر، فهو ليس بقلب(178).
فالمانع من التأثير والاعتبار هو سهو القلب وغيبته عن تعقل، وصاحب القلب الحي لا يمكن أن يتأثر بأي مرض من أمراض القلوب، بل سيكون هو القلب الناجي من جميع الأمراض لا سيما الطبع؛ لأنه قلب حي ذكي زكي، إذا ورد عليه شيء من آيات الله تذكر بها وانتفع فارتفع؛ لأنه يعقل عن الله، كما قال تعالى: (ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) [يس: ٧٠]. أي: حي القلب واعيه(179).
ولما كان القلب هو محل الإيمان والكفر، ومركز الهداية والضلال، فإنه يتعرض للمواقف الكبيرة التي تظهر حقيقته؛ لأن الله تعالى يمتحن هذه القلوب ليقيم الحجة على أصحابها، يمتحنها بالابتلاء والاختبار والفتنة، وهذا قانون إلهي واضح قال تعالى: (ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ) [العنكبوت: ٢].
والقتال والجهاد في سبيل الله نوع من أنواع الامتحان والابتلاء، وفي معركة أحد عندما خالف الرماة الأوامر طلبًا للغنيمة، تحّول النصر إلى هزيمة، فتسرّب اليأس إلى قلوب المنافقين، بينما ثبت المؤمنون في الميدان إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم، هذا الاختبار كشف عن صدق المؤمنين وكذب المنافقين، وهنا بدأ التشكيك من قبل المنافقين: (ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ) [آل عمران: ١٥٤].
وهذا هو الهاجس الذي يجيش في النفوس التي لم تخلص لله وللعقيدة حينما تصطدم في موقعة من المواقع بالهزيمة، وحينما تعاني آلام الهزيمة، وهنا يجيئهم التصحيح العميق للأمر كله، أمر الحياة والموت، ولأمر الحكمة الكامنة وراء الابتلاء(180).
قال تعالى: (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ) [آل عمران: ١٥٤].
قال ابن الجوزي في الآية: «إبانة ما في القلوب من الاعتقاد لله ولرسوله وللمؤمنين»(181).
فليس كالمحنة محك يكشف ما في الصدور ويصهر ما في القلوب، فينفي عنها الزيف والرياء، ويكشفها على حقيقتها بلا طلاء(182).
وجعل الابتلاء وهو الامتحان والاختبار بالسراء والضراء للصدور، أما التمحّيص فهو التطهير والتصفية(183). فالابتلاء يكون سببًا في تمحيص ما في القلوب، وذاك أن الابتلاء لا يكون إلا للظاهر، أما التمحيص فللباطن، فهو كالتزكية والتطهير(184).
فالقلوب هي محلّ الابتلاء والتمحيص، ومحل الأقوال والأعمال، ولهذه القلوب شأنًا عظيمًا عند الله تبارك وتعالى، كيف لا والقلب هو الذي إذا كان حيًّا، فإن الجسد يحيا، وإذا مات مات الجسد.
ولمّا كان القلب هو المخاطب وهو السعيد وهو الشقي، فلا سعادة للعبد ولا لذّة ولا قرب من الله تعالى ولا مناجاة، ولا شفاء من جميع أمراض القلوب إلا بصلاح قلبه، فصلاح القلوب هو الذي ينجيها من الطبع عليها.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وأصل صلاح القلب هو حياته واستنارته»(185). فقلب المؤمن عبارة عن مصباح يضيء.
يقول تعالى: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ) [الأنعام: ١٢٢].
يقول ابن مسعود رضي الله عنه لرجل: «داو قلبك، فإن حاجة الله إلى العباد صلاح قلوبهم»(186).
فالمؤمن في قلبه مصباح يضيء ويجعله يميز بين الشبهات والدلائل الواضحات، وبين الهدى والضلال، بل إن هذا المصباح عبارة عن فرقان يفرق بين الحق والباطل، فقلب المؤمن يدفع الفتن والشهوات لسلامته وصفائه، فيزداد إشراقه وبياضه، وتزداد مناعته من الذنوب والمعاصي والشهوات والشبهات، وبالتالي يكون سليمًا صحيحًا من جميع الأمراض لا سيما الطبع على القلوب.
نتائج الطبع على القلوب
للطبع على القلوب نتائج وخيمة ذكرها الله تعالى في كتابه، وهذه العقوبة إنما هي نتيجة لأعمال الإنسان بعد إنذاره وتحذيره، ومعلوم أن قلب الإنسان ينال من الطبع على قلبه بقدر تلوثه بالذنوب والمعاصي، وعلى هذا الأساس فإن الموانع والحجب التي تضرب على القلب تعطل حواس الإنسان كالسمع والبصر، فتمنعه من الإدراك؛ لأن الطبع على القلوب يقترن به الطبع على الاسماع والأبصار؛ لأنها أهم منافذ القلوب، وكأن الله تعالى بهذا الطبع سد عنهم طرق هذه الحواس، فغدوا لا ينتفعون بها (ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ) [الحج: ٤٦].
وكذلك ينتج عن طبع القلوب البقاء على الكفر وعدم الإيمان بالله تعالى، ومن نتائجه أيضًا الجهل وعدم الفهم والعلم، واتباع الهوى والشهوات والإصرار على المنكرات.
أولًا: تعطيل وسائل المعرفة:
إن من أفظع النتائج السلبية والوخيمة التي تحصل بعد الطبع على القلوب هو تعطيل وسائل المعرفة والإدراك من السمع والبصر وغير ذلك، والقرآن الكريم حينما يتحدث عن القلب يصفه بأنه المنظم لكل السلوك البشري والمتحكم بكل تصرفات الإنسان، بل هو المتحكم بكل وسائل الإدراك الأخرى.
فالإبصار لا يتم إلا عن طريقه، والسمع لا يكون إلا بعد إذنه، والتعقل والتفقه لا يكتمل إلا بكون القلب حاضرًا.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) [الأعراف: ١٧٩].
والمعنى أن لهؤلاء الذين ذرأهم الله لجهنم - والعياذ بالله- من خلقه لهم قلوب لا يتفكرّون بها في آيات الله ولا يتدبرون بها أدلته الوحدانية، ووصفهم بأنهم (ﭛ ﭜ ﭝ) لإعراضهم عن الحق، وتركهم التدبر، فهم لهم (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) أي: لهم أعين لا ينظرون بها إلى آيات الله وأدلته فيتأملونها ويتفكروا فيها، فيعملوا بها صحة ما تدعوهم إليه رسلهم، وفساد ما هم عليه مقيمون من الشرك بالله (ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ) آيات الله، فيعتبروا فيها، ولكنهم يعرضون عنها(187).
فالآية القرآنية الكريمة تشير إلى أن وسائل المعرفة من السمع والبصر وغير ذلك قد تعطلّت؛ لأنهم انشغلوا بما استحوذ عليهم من شهواتهم، فصارت عقولهم لا تفكّر في شيء غيره، وتخطط للحصول على الشهوة، وكذلك العيون لا ترى، إلا ما يستهويها، وكذلك الآذان، وكل منهم يرى، غير مراد الرؤية ويسمع غير مراد السمع.
والفرق بين فقه القلوب ورؤية العين وسماع الآذان، أن فقه القلب هو فهم القضايا التي تنتهي إليها الإدراكات، إذ إن لكل وسيلة إدراكًا، وهي من المحسات، وبعد أن تتكون المحسات يمتلك الإنسان خميرة علمية في قلبه وتنضج لتصير قضية عقلية منتهية ومسلمًا بها، فكل الحواس إذن تربي المعاني عند الإنسان، وحين تربي المعاني في النفس الإنسانية تتكون القضايا التي تستقر في القلب(188)، لذلك يمتن الحق سبحانه وتعالى على خلقه بأنه علمهم فقال: (ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ) [النحل: ٧٨].
قال ابن كثير بعد أن ذكر منّة الله تعالى على عباده بإيجادهم: ثم بعد هذا يرزقهم تعالى السمع الذي به يدركون الأصوات، والأبصار التي بها يحسون المرئيات، والأفئدة وهي العقول التي مركزها القلب على الصحيح(189).
فالقلوب توصل إلى عملية التفقه والتعقل، والأعين عن طريقها تصل إلى الإبصار، والأذن أول خطوة للوصول إلى عملية السمع، ولهذا نجد أن الخالق سبحانه وتعالى نفى عن الكفار السمع والبصر والعقل، لعدم انتفاعهم بها كما قال سبحانه: (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱ).
فهم يسمعون ويبصرون بالحواس الظاهرة، وبها قامت عليهم الحجة، ولا يسمعون ولا يبصرون بالحواس الباطنة، التي هي سماع القلب، التي هي روح حاسة السمع، والتي هي حظ القلب، ولو سمعوه من هذه الجهة لحصلت لهم الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة(190).
قال شيخ الإسلام: «والقلب الحي المنّور، فإنه لما فيه من النور يسمع ويبصر ويعقل، والقلب الميت فإنه لا يسمع ولا يبصر»(191).
ومن المعلوم أن الإدراك قواه ثلاثة هي: السمع والبصر والفؤاد، وكلها من شأن النفس المدركة بالقلب. لذا قال الإمام الغزالي: (اعلم أن محل العلم هو القلب)(192).
ورأى كذا لما يعلم بالقلب ولا يرى بالعين، ولكنهم خصوه بما يراه القلب بعد فكر وتأمل، وطلب لمعرفة وجه الصواب مما تتعارض فيه الأدلة(193). فالتعقل والسمع في الحقيقة من شأن القلب الذي هو النفس المدركة.
يقول شيخ الإسلام: «فصاحب العلم في حقيقة الأمر هو القلب، وإنما سائر الأعضاء حجبته له ترسل إليه الأخبار ما لم يكن ليأخذه بنفسه، فمدار الأمر على القلب»(194). وتأثر القلب بما يراه ويسمعه أعظم من تأثره بما يلمسه ويذوقه ويشمه؛ لأن هذه الثلاثة هي أهم طرق العلم وهي السمع والبصر والعقل(195)، يقول ابن القيم: «فإن القلب إذا فسد فسد السمع والبصر، بل أصل فسادهما من فساده»(196).
نستنتج من ذلك أن فهم المسموع أو المرئي إنما يكون بالقلب، والخطاب الإلهي موجه لفهمه، ومعجزاته المخلوقة جعلت مبصرة، ليفهم وجه الاستدلال منها، لذا كان كل إثبات أو مدح للسمع أو البصر إنما هو لإدراك الغاية من المسموع والمبصر، وإلا صارت هذه القوى لا تتجاوز درجة الإحساس والشعور، وهذا نصيب البهائم، فهي ذات سمع وبصر وقلب لكن لم تمنح الفؤاد، وهو من القلب.
فتأمل تشبيه الخالق سبحانه وتعالى للكفار بالأنعام بأن لكل واحد منهم قلبًا وأذنًا وعينًا، غير أنها معطّلة عن الفقه والسمع والبصر، فقلب البهيمة ينقصه فؤاد، وقلب الكافر يلزمه إعماله ليكتمل، فهؤلاء الكفار أبدانهم حية تسمع الأصوات وترى الأشخاص، ولكن حياة البدن بدون حياة القلب من جنس حياة البهائم(197). فالسمع والبصر والفؤاد محتوى ضمن كل هو القلب.
فالقلب هو المدخل الوحيد إلى مراكز الإدراك في العقل البشري؛ لأن القلب له أكثر من مهمة يقوم بها، فبالإضافة إلى مهمته كعضو إحساس تابع لمركزه في الدماغ، فإنه أيضًا متحكم في كل وسائل الإدراك الأخرى، فالإبصار لا يتم إلا عن طريقه، والسمع لا يكون إلا بعد إذنه، والتفقه والتعقل لا يكتمل إلا بكون القلب حاضرًا، لذلك يقول الحق سبحانه واصفًا أهمية القلب في كل عمليات الإدراك: (ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ) [الأعراف: ١٠٠].
قال الطبري في تفسير قوله تعالى: (ﮒ ﮓ ﮔ) أي: «لا يسمعون موعظة ولا تذكيرًا، سماع منتفع بها»(198).
فالطبع على القلوب لا يستعمل إلا في الشر، والمراد أن هذه القلوب وصلت من الفساد إلى حالة لا تقبل معها خيرًا، كالهدى والإيمان والعلم النافع الذي هو فقه الأمور ولبابها، وإنما يحصل الطبع بالإصرار على الشرور والمعاصي(199).
يقول الشعراوي: وجعل الطبع على القلوب نتيجة للاختيار؛ لأن القلوب وعاء اليقين الإيماني، فحين يملأ إنسان وعاء اليقين بالكفر، فهذا يعني: أنه عشق الكفر وجعله عقيدة عنده(200).
وكذلك قوله تعالى: (ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ) [الحج: ٤٦].
هذه الآية من سورة الحج تشير بصورة واضحة وجلية إلى حقيقة مفادها أن القلب يمثل المدخل إلى العقول بكل معانيه وخاصة مراكز الإدراك (السمع والأبصار والأفئدة) فالقلب هو المدخل الوحيد إلى مراكز الإدراك في العقل البشري.
يقول ابن عطية في تفسيره لهذه الآية: «وهذه الآية تقتضي أن العقل في القلب، وذلك هو الحق، ولا ينكر أن للدماغ اتصالًا بالقلب يوجب فساد العقل متى اختلّ الدماغ»(201). وفي قوله: (ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) لفظ مبالغة كأنه قال: ليس العمى عمى العين، وإنما العمى حق العمى عمى القلب(202). وبيّن القاسمي أنّ المعنى ليس الخلل في مشاعرهم، وإنما هو في عقولهم بإتباع الهوى والانهماك في الغفلة(203).
والله تعالى جعل العمى للعين عدم إدراك المرئيات واستقبال الصور، والجهل عمى القلب، أي فقدان لبصيرته، (ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ) أي: الإدراك التام إنما يكون بالقلب، وتعطله بعمى القلب، والعمى لا يطلق إلا على البصر، فكانت الأبصار في (أولي الأبصار) فهي إحدى قوى القلب لرؤية الحق وفهم الحجة، فالعمى هنا أصاب بصيرة القلب.
ثم لما كان التعقل والسمع في الحقيقة من شأن القلب، أي: النفس المدركة، وهو الذي يبعث الإنسان إلى متابعة ما يعقله أو يسمعه من ناصحه، عدّ الله تعالى إدراك القلب رؤية له ومشاهدة، ومن لا يعقل ولا يسمع أعمى القلب(204)، كأنه قال تعالى: لا عمى في أبصارهم فإنهم يرون بها، لكنّ العمى في قلوبهم(205)، فأبصارهم وإن كانت سالمة لا عمى بها، ولكن العمى الحقيقي هو عمى القلوب، فعمى الأبصار ليس بشيء إذ قيس بعمى القلوب والبصائر(206).
فالقلب هو العاقل والمدبر والمتفقه والعالم والسامع والمبصر، فهو الذي يدرك ما يتلقى من الحواس، وتعطّله تعطل للحواس، فالأذن تنقل المسموعات له، وخاصية السمع، بمعنى: إدراك المسموع وفهمه هي بالقلب، والعين تنقل المرئيات للقلب، وخاصية التبصر، بمعنى: إدراك المرئي وفهمه هي بالقلب، فمهمة القلب التعقل والتدبر والتفكر والسمع، والبصيرة والنظر والتأمل والفهم، بل هو النفس المدركة.
فمن الحقائق المطلقة التي ذكرها القرآن الكريم وأكدها في كثير من آياته أن القلب هو مركز العاطفة، والتفكر، والتعقل، والذاكرة، والقرآن الكريم دقيق في كلماته فقال: (ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ) [الحج: ٤٦].
فالذي يفهم ويعقل هو القلب وليس الدماغ، وكذلك قوله تعالى: (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ) [الأعراف: ١٧٩].
فهو يخاطب فينا مركز الإدراك والفهم وهو القلب، وليس الدماغ؛ لأن القلب هو مركز الإيمان والعقيدة، والفهم والإدراك، فالقلب هو مناط المسؤولية، والذي يحرم نعمة الفهم والإدراك هو الذي يطبع الله على قلبه(207).
لذلك يمكن القول: إن الطبع على القلوب يقترن به الطبع على الأسماع والأبصار؛ لأنها أهم منافذ القلوب إلى مواد المعارف التي تأتي من خارج كيان الإنسان(208).
ولذلك قال الله تعالى في شأن من شرح بالكفر صدرًا في سورة النحل: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ) [النحل: ١٠٨ - ١٠٩].
فالخالق عز وجل صرف عنهم طريق الهدى وكأنه بهذا الطبع سدّ عنهم طرق هذه الحواس، حتى لا ينتفعوا بها في اعتبار وتأمل(209). فهو أغلقها عن قبول الحق، ذلك لأن القلب هو الوعاء الذي تصبّ فيه الحواس التي هي وسائل الإدراكات المعلومية، وأهمها السمع والبصر، فبالسمع تسمع الوحي والتبليغ من الله، وبالبصر ترى دلائل قدرة الله في كونه وعجيب صنعه مما يلفتك إلى قدرة الله، ويدعوك للإيمان به سبحانه، فإذا ما انحرفت هذه الحواس عمّا أراده الله منها، وبدل أن تمد القلب بدلائل الإيمان تعطّلت وظيفتها(210).
ثانيًا: عدم الإيمان:
ومن نتائج الطبع على القلوب هو عدم الإيمان بالله تعالى والبقاء على الكفر، فالختم، والطبع، والغشاوة، والقفل، هي عقوبات للكفار والمنافقين في الدنيا، وقعت عليهم بسبب سوء أعمالهم وعدم قبولهم الحق، وهذه العقوبات لم يفعلها الله تعالى بعبده من أول وهلة حين أمره بالإيمان، ودعاه إليه، وإنما عاقبه الله بها بعد تكرار الدعوة منه للكفار، وتكرار الإعراض منهم، والمبالغة في الكفر والعناد، فحينئذ يطبع الله على قلوبهم ويختم عليها، فلا تقبل الهدى بعد ذلك.
يقول محمد التويجري: «والإعراض والكفر الأول لم يكن مع ختم وطبع، بل كان منهم اختيارًا، فلما تكرر منهم صار طبيعة وسجية»(211).
قال تعالى: (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ) [الأعراف: ١٠١].
فأوضح الله تعالى في هذا النص القرآني أن من سنن كونه الطبع على قلوب الكافرين، فهو نتيجة تحصل بسبب ما يكسب الكافرون بكفرهم وجحودهم من ذنوب، وبسبب طول الأمل عليهم وهم مكذبون(212).
قال الطبري: هذه القرى التي ذكرت لك يا محمد أمرها وأمر أهلها يعني: قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وشعيب نقص عليك من أنبائها، فنخبرك عنها وعن أخبار أهلها، وما كان من أمرهم وأمر رسل الله التي أرسلت اليهم، لتعلم أنّا ننصر رسلنا والذين أمنوا في الحياة الدنيا على أعدائنا وأهل الكفر بنا، ويعلم مكذبوك من قومك ما عاقبة أمر من كذّب رسل الله، فيرتدعوا عن تكذيبك، كما طبع الله على قلوب هؤلاء الذين كفروا بربهم وعصوا رسله من هذه الامم التي قصصنا عليك نبأهم يا محمد، في هذه السورة، حتى جاءهم بأس الله فهلكوا به، كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين، الذين كتب عليهم أنهم لا يؤمنون أبدًا من قومك(213).
قال ابن عباس والسدي: يعني: فما كان هؤلاء الكفار الذين أهلكناهم ليؤمنوا عند إرسال الرسل بما كذّبوا من قبل، يوم أخذ ميثاقهم حين أخرجهم من ظهر آدم، فأقرّوا باللسان وأضمروا التكذيب، فقد كان في علم الله تعالى أنهم لا يؤمنون بالرسل، بسبب تكذيبهم بالحق أول ما ورد عليهم؛ لأن شؤم المبادرة إلى تكذيب الرسل سبب للطبع على القلوب والإبعاد عن الهدى(214).
وصيغة (ﮤ ﮥ ﮦ) تفيد مبالغة النفي بلام الجحود الدالة على أن حصول الإيمان كان منافيًا لحالهم من التصلّب في التصميم على الكفر والطبع على قلوبهم فلا تلين شكيمتهم بالآيات والنذر(215).
فهؤلاء الكفار كان ينقصهم القلب المفتوح، والحس المرهف والتوجه إلى الهدى، كان ينقصهم الفطرة الحية التي تستقبل وتنفعل، فلما لم يوجهوا قلوبهم إلى موجبات الهدى ودلائل الإيمان طبع الله على قلوبهم وأغلقها، فما عادت تتلقى ولا تنفعل ولا تستجيب(216).
إن اللجاج في الكفر والإصرار عليه هو الذي حجب عنهم النور الإلهي، ولم يوفقهم الله إلى الإيمان بسبب أنهم كذبوا من قبل فكان تكذيبهم سببًا لأن يمنعوا الإيمان.
وقوله تعالى: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ) [الأعراف: ١٠١].
أي: كما طبع الله على قلوب الأمم الخالية التي أهلكها، كذلك يطبع على قلوب الكفار الذين كتب عليهم أن لا يؤمنوا من قومك يا محمد صلى الله عليه وسلم(217).
قال الرازي: «أي: إن لم نهلكهم بالعقاب نطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون ولا يتعظون ولا ينزجرون»(218). وهذا الطبع على القلوب ليس قهرًا منه تعالى، ولكن لاستبطان الكفر وإخفائه في قلوبهم(219).
وبيّن صاحب المنار أن مثل هذا الذي وصف من عناد هؤلاء وإصرارهم على ضلالهم، وعدم تأثير الدلائل والبينات في عقولهم، يكون الطبع على قلوب الذين صار الكفر صفة لازمة لهم، بحسب سنة الله تعالى في أخلاق البشر وشؤونهم، وذلك بأن يأنسوا بالكفر وأعماله، حتى تستحوذ أوهامه على أفكارهم، ويملأ حب شهواته جوانب قلوبهم، ويصير وجدانًا تقليديًّا لهم، لا يقبلون فيه بحثًا ولا يسمعون فيه نقدًا، فيكون كالسّكّة التي طبعت في أثناء لين معدنها بصهره وإذابته ثم جمدت، فلا تقبل نقشًا ولا شكلًا آخر(220).
وفي نص آخر بين الله تبارك وتعالى أن سبب الطبع على قلوب اليهود إنما هو بكفرهم، فقال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ) [النساء: ١٥٥].
وهذه الآية القرآنية الكريمة تسجل على اليهود أولًا: نقضهم للمواثيق، ثم تسجّل عليهم ثانيًا: كفرهم بآيات الله، وتسجل عليهم ثالثًا: قتلهم الأنبياء بغير حق (فقد قتلوا زكريا ويحيى) وغيرهما من رسل الله، ولا شك أن قتل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يدل على شناعة جريمة قتلهم وعلى توغلهم في الجحود والعناد والفجور، وسجّل عليهم، رابعًا: قولهم قلوبنا غلف، يعني: عليها غشاوة وأغطية، عما تدعونا إليه، فلا نفقه ما تقول ولا نعقله، فكان العقاب على هذه الجرائم العظيمة أن طبع الله على قلوب هؤلاء اليهود(221).
وقد ردّ الله تعالى عليهم بقوله: (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ). والطبع معناه: إحكام الغلق على الشيء وختمه بحيث لا ينفذ إليه شيء آخر، والمعنى: أن هؤلاء القائلين إن قلوبهم غلف كاذبون فيما يقولون، وتخليهم عن مسؤولية الكفر ليس صحيحًا؛ لأن كفرهم ليس سببه أن قلوبهم قد خلقت مغطّاه بأغطية تحجب عنها الحق - كما يزعمون - بل الحق أن الله تعالى ختم عليها، وطمس معالم الحق فيها، بسبب كفرهم وأعمالهم القبيحة(222).
فكلما تكاثرت الذنوب طبع على القلوب، وليس الطبع على القلوب مرضًا عاديًا، بل هو من مضاعفات الأمراض الخطيرة كالكفر والنفاق والشرك وغيرها، يقول ابن تيمية رحمه الله: «والله سبحانه جعل مما يعاقب به الناس على الذنوب سلب الهدى والعمل النافع»(223). ويقول ابن القيم: «إن الله عاقب الكفار بأمور تمنعهم من الإيمان وذكر منها: الختم والطبع والأكنة»(224).
وقد خان اليهود الأمانة، ونقضوا العهود، وأفسدوا في الأرض، فطبع الله على قلوبهم.
يقول ابن القيم: «إن الطبع والإبعاد عن توفيقه وفضله إنما كان بكفرهم الذي اختاروه لأنفسهم وآثروه على الإيمان، فعاقبهم عليه بالطبع، والمعنى لم نخلق قلوبًا لا تعي، ولا تفقه ثم نأمرهم بالإيمان وهم لا يفقهونه، بل اكتسبوا أعمالًا عاقبناهم عليها بالطبع على القلوب والختم عليها»(225).
إن كفرهم بالحق بعد أن علموه كان سببًا لطبع الله على قلوبهم (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) حتى صارت غلفًا، والغلف جمع أغلف، وهو القلب الذي قد غشيه غلاف كالسيف الذي في غلافه، ولا ريب أن القلب إذا طبع عليه أظلمت صورة العلم فيه وانطمست(226).
فهو سبحانه قد خلق القلوب على الفطرة، بحيث تتمكن من اختيار الخير والشر، إلا أن هؤلاء اليهود قد أعرشوا عن الخير إلى الشر، واختاروا الكفر على الإيمان نتيجة انقيادهم لأهوائهم وشهواتهم، فالله تعالى طبع على قلبوهم بسبب إيثارهم سبيل الغي على سبيل الهدى والرشد، فصاروا لا يؤمنون إلا قليلًا.
وقوله تعالى: (ﭦ ﭧ) أي: أن هذا إيمانهم لا قيمة له عند الله تعالى؛ لأن الإيمان ببعض الأنبياء والكفر ببعضهم، يعدّه الإسلام كفرًا بالكل، فلا يؤمنون إلا قليلًا هم عدد قليل كعبد الله بن سلام وأشباهه(227).
يمكن أن نستنج مما سبق أن هذه العقوبة إنما وقعت في حق أقوام مخصوصين معاندين من الكفار، فعل الله بهم ذلك عقوبةً منه لهم في الدنيا وبهذا النوع من العقوبة العاجلة، كما عاقب بعضهم بالمسخ قردة وخنازير، وبعضهم بالطمس على أعينهم، وبعضهم بخسف ديارهم، فهو سبحانه يعاقب بالطمس على القلوب كما يعاقب بالطمس على الأعين، كما أن هذه القلوب التي عاقبها بالطبع عليها هي ليست قلوب مغلقه بطبعها، وإنما هم بكفرهم جرّ عليهم أن يطبع الله على قلوبهم، فإذا هي صلدة، لا تستشعر نداوة الإيمان ولا تتذوق حلاوته.
ثالثًا: عدم العلم والفقه:
لا شك أن الجهل وعدم العلم شر محض على الإنسان، وآثاره وخيمة، ونتائجه خطيرة، فما عبد غير الله تعالى إلا بسبب الجهل وعدم العلم، ذلك أن الجهل يعني: خلو النفس من العلم، فعندما ينتشر الجهل ويغيب الإيمان عن القلوب يصبح الجهل هو المتحكم بالنفس والمتسيّد عليها.
قال تعالى: (ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ) [الروم: ٥٨ - ٥٩].
هذه الآية أكدت على أن الله تعالى ضرب للناس في هذا القرآن من كل مثل حكيم، من شأنه أن يهدي القلوب إلى الحق، ويرشد النفوس إلى ما يسعدها، فتارة يضرب المثل بآيات الأفاق والأنفس، وتارة بالوعد والوعيد، وتارة بالأمر والنهي، وتارة بالبشرى والإنذار، وتارة بالاستدلال، ورغم هذا البيان، فإن فريقًا من الجاهلين والغافلين يجحدون بآيات الله تعالى، ويقولون على سيبل التطاول والتبجح: (ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) ، يقول الكفار: ما أنتم معشر المؤمنين إلا متّبعون للباطل بما يدعوكم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم (228).
والحقيقة إن هذا القول الذي صدر منهم إنما هو بسبب جهلهم وبعدهم عن الحق، وقد بين الإمام ابن القيم رحمه الله أن الجهل نوعان: الأول: عدم معرفة الحق، والثاني: عدم العمل بموجبه ومقتضاه، وكلاهما له ظلمة ووحشة في القلب، فكما أن العلم يوجب نورًا، وأنسًا، فالجهل يوجب ظلمة ويوقع وحشة(229). وهذه الآية تشمل الأمرين كلاهما.
ثم يعقّب الخالق سبحانه على هذا التطاول والغرور في القول من قبل هؤلاء الجهلة بقوله تعالى: (ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ).
وهذا دليل على أن أسوأ أحوال الإنسان عندما يطبع على قلبه لكثرة جهله، فيصبح لا يفهم ولا يعقل شيئًا، فيختم الله على قلوب الذين لا يعلمون حقيقة ما تأتيهم به يا محمد من عند الله من هذه العبر والعظات والآيات البينات فلا يفقهون عن الله حجة، ولا يفهمون عنه ما يتلو عليهم من آي كتابه؛ فهم لذلك في طغيانهم يترددون(230).
ونبه الخالق سبحانه على كثرة المطبوع عليهم بجمع الكثرة فقال: (ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ). أي: لا يجددون -أي: لعدم القابلية- العلم بأن لا يطلبوا علم ما يجهلونه مما حققه هذا الكتاب من علوم الدنيا والآخرة رضًى منهم بما عندهم من جهالات سموها دلالات، وضلالات ظنوها هدايات وكمالات(231).
يقول ابن عاشور: «والطبع على القلب: تصيّيره غير قابل لفهم الأمور الدينية وهو الختم»(232).
فهم لجهلهم وكفرهم طبع الله على قلوبهم فلا يدخلها خير؛ لأنها قلوب جاهلة، قلوب مشمئزة من ذكر الله، قلوب مقفلة لا يخترقها التدبر ولا التفهم، وهي قلوب زائفة منحرفة، بل هي قلوب عمياء، أصبحت لا تدرك الأشياء على حقيقتها، بل ترى الحق باطلًا والباطل حقًّا(233).
والآية في الحقيقة تشير إلى أسوأ أنواع الجهل وهو الجهل (المركب) الجهل الذي يحسبه صاحبه علمًا، ولا يصغي لمن أراد إيقاظه من غفلة الجهل هذه(234). فالخالق سبحانه طبع على قلوب هؤلاء الجهلة الذين لا يطلبون العلم، ويصرّون على خرافات اعتقدوها. يقول الدكتور وهبة الزحيلي: «فإن الجهل المركب يمنع إدراك الحق، ويوجب تكذيب المحق»(235). فهذا الصنف من الناس لا يعلمون ولا يعملون على إزالة جهلهم، لتوهمهم أنهم ليسوا بجهلاء، وهذا أسوأ أنواع الجهل؛ لأنه جهل مركب، إذ إن صاحبه يجهل أنه جاهل.
ولا بد من الإشارة إلا أن الطبع على قلوب هؤلاء لا يكون إلا بعد استنفاذ كل وسائل الدعوة، فإن لم يستجيبوا فلا أمل في هدايتهم ولا جدوى من سماعهم يقول الشعراوي: فإذا قلت: إذا كان الحق سبحانه قد وصفهم بأنهم لا يعلمون، فلماذا يطبع على قلوبهم؟ ولماذا يحاسبهم؟ فأجاب بقوله: «لأن عدم العمل نتيجة تقصيرهم، فالحق سبحانه أقام لهم الأدلة والآيات الكونية الدالة على وجوده تعالى، فلم ينظروا في هذه الآيات، ولم يستدلّوا بالأدلة على وجود الخالق القادر سبحانه، وضرورة البلاغ عن الله، إذن: فعدم علمهم نتيجة غفلتهم وتقصيرهم»(236).
هكذا هم أهل الكفر يكذّبون بكل آية، ولا يكتفون بالتكذيب، بل يتطاولون على أهل العلم الصحيح، فيقولون عنهم: إنهم مبطلون، فهؤلاء الذين لا يعلمون، مطموسو القلوب، لا تتفتح بصيرتهم لإدراك آيات الله، متطاولون على أهل العلم والهدى، ومن ثم يستحقّون أن يطمس الله على بصيرتهم، وأن يطبع على قلوبهم، لما يعلمه سبحانه وتعالى عن تلك البصائر وهذه القلوب(237).
ويمكن أن نستنتج مما سبق أن هذه الآية القرآنية فيها دليل على وجوب طلب العلم الشرعي الذي هو معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته؛ لأن من عرف ربه حق المعرفة رقّ قلبه، ومن جهل حق ربه قسا قلبه، ولا يكون القلب قاسيًا إلا إذا كان صاحبه من أجهل العباد بالله عز وجل، وكلما عظم الجهل بالله وبحقوقه كان العبد أكثر جرأة على حدود الله ومحارمه، وكلّما وجد الشخص يديم التفكير في ملكوت الله، ويتذكر نعم الله عليه وجد في قلبه رقة، والخالق سبحانه طبع على قلوب هؤلاء الجهال بسبب معارضة الحق ومعاندته، فهم بسبب جهلهم فقدوا العلم النافع الذي يرشد إلى الحق ويجنب الباطل؛ لأن ذنوبهم غطّت القلوب وغشيتها حتى ذهب النور عنها فبقت في ظلمة، فالجهل هو العقبة التي تحول بين المسلمين وبين كمالهم وسعادتهم؛ لأن جميع الجرائم في المجتمع إنما تكون ناتجة عن ظلمة القلوب وعدم البصيرة لجهل أصحابها.
رابعًا: الاستمرار والإصرار على إتباع الهوى:
ومن نتائج الطبع على القلوب هو الاستمرار والإصرار على إتباع الهوى، و(الهوى) هو محبة الإنسان الشيء وغلبته على قلبه(238)، فهو دافع داخل الإنسان يحركه الى ما يحب ويشتهي. قال تعالى: (ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ) [النازعات:٤٠].
أي: عن شهواتها وما تدعو إليه من معاصي الله عز وجل(239).
لذلك فإن اتباع الهوى يطمس نور العقل، ويعمي بصيرة القلب، ويصد عن اتباع الحق، ويضل عن الطريق المستقيم، فلا تحصل بصيرة العبرة معه ألبته، والعبد إذا اتبع هواه فسد رأيه ونظره، فأرته نفسه الحسن في صورة القبيح، والقبيح في صورة الحسن، فالتبس عليه الحق بالباطل، فأنى له الانتفاع بالتذكر، أو بالتفكر، أو بالعظة، فكلما ضعف نور الإيمان في القلب كلما كانت الغلبة للهوى(240).
وأخبر الله سبحانه وتعالى أن باتباع الهوى يطبع الله على قلوب العباد بقوله: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ) [محمد: ١٦].
فقد ذمّ الخالق سبحانه في هذه الآية الذين اتبعوا أهوائهم؛ لأنهم لا يستفيدون مما يسمعون، ولا يتأثرون بموعظة، ولا يعون أو يعقلون ما يرشدون به. يقول الطبري: ومن هؤلاء الكفار يا محمد (ﯘ ﯙ ﯚ) وهو المنافق، يستمع ما تقول فلا يعيه ولا يفهمه، تهاونًا منه بما تتلو عليه من كتاب ربك، تغافلًا عما تقوله، وتدعو إليه من الإيمان(241).
فالخالق سبحانه ذكر بأن هؤلاء يستمعون القرآن الذي هو غاية الإعجاز والبلاغة والبيان، ولكن يحال بينهم وبين سماعه، فإذا خرجوا بعد سماعه، يقولون لمن أوتي العلم (ﯤ ﯥ ﯦ) كأنهم ما سمعوا أصلًا، والذي حال بينهم وبين الفهم ما ذكره الله عنهم أنهم اتبعوا أهواءهم، فطبع الله على قلوبهم، وطمس على معرفتهم حيث اتبعوا أهواءهم، فلم يستفيدوا، فالهوى هو الذي أعماهم وأصمهم، وفي ذلك دلالة واضحة على أن الهوى مانع من موانع الانتفاع بالقرآن.
وقوله تعالى: (ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) [محمد: ١٦].
أي: أولئك المنافقون الذين هذه صفتهم هم القوم الذين ختم الله على قلوبهم، فلم يؤمنوا، ولم يهتدوا إلى الحق، واتبعوا شهواتهم، وأهواءهم في الكفر والعناد، بسبب استحبابهم الضلالة على الهداية، فهم لما تركوا اتباع الحق أمات الله قلوبهم فلم تفهم ولم تعقل، فعند ذلك اتبعوا أهواءهم في الباطل، فصاروا لا يعقلون حقًّا، ولا يفهمون حديثًا(242).
قال السعدي: «أي: ختم على قلوبهم، وسدّ أبواب الخير التي تصل إليه بسبب إتباعهم أهواءهم التي لا يهوون فيها إلا الباطل»(243).
وجيء باسم الإشارة (أولئك) بعد ذكر صفاتهم تشهيرًا بهم، وجيء بالموصول وصلتيه خبرًا عن اسم الإشارة، لإفادة أن هؤلاء المتميزين بهذه الصفات، هم أشخاص الفريق المتقرر بين الناس، أنهم فريق مطبوع على قلوبهم؛ لأنه قد تقرر عند المسلمين أن الذين صمموا على الكفر هم قد طبع الله على قلوبهم، وأنهم متبعون لأهوائهم(244). وهذا الصنف من الناس لا يهتدون ولا يؤمنون مهما أنذروا بالآيات القرآنية، وشاهدوا من الآيات الكونية، ومهما سمعوا وعاينوا من المعجزات النبوية الواضحة (245).
وعن علي رضي الله عنه أنه قال: «وأما اتباع الهوى فيصدّ عن الحق»(246).
يقول ابن تيمية: «واتباع الهوى يصّد عن التصديق بالحق واتباع ما أوجبه العلم به، وهذه حال عامة المكذبين مثل مكذبي محمد صلى الله عليه وسلم وموسى صلى الله عليه وسلم وغيرهما، فإنهم علموا صدقهما علمًا يقينيًّا لما ظهر من آيات الصدق ودلائله الكثيرة، لكن اتباع الهوى صد عن الحق»(247).
والهوى حينما يغلب على القلب ويقهره فلا ينتفع القلب بفائدة قط، بل يصبح كريشة في مهب الرياح أينما ذهبت انكفأت معها، وتدور المعركة بين القلب والهوى، فكلما قوي القلب انقهر الهوى، وحينما يضعف القلب يستأسر الهوى ولا يرجى منه نفع أو فائدة(248).
قال ابن الجوزي: «اعلم أن مطلق الهوى يدعو إلى اللذّة الحاضرة من غير فكر في عاقبة، ويحثّ على نيل الشهوات عاجلًا، وإن كانت سببًا للألم والأذى في العاجل، ومنع لذات في الأجل، فأما العاقل فانه ينهى نفسه عن لذة تعقب ألمًا، وشهوة تورث ندمًا، وكفى بهذا القدر مدحًا للعقل وذمًّا للهوى»(249).
فكلما قوي القلب ودفع الهوى عند أول محنة صقل وثبت وعظم فيه الإيمان وبدأ شعاعه فيه يدب، وفي حال ضعف القلب وهجوم الهوى وانتصاره على القلب تكون الظلمة ويقع السواد حتى يسقط القلب بالكلية، يقول ابن القيم: «فإن العلم نور الله يقذفه في قلب عبده، والهوى والمعصية رياح عاصفة تطفيء ذلك النور ولا بد أن تضعفه»(250).
وإن من أعظم أضرار الهوى حينما يتمكن من القلب أن يهوي بصاحبه في لجج الفتن، فلا يرى حقًا إلا ما وافق هواه، ولا يرى باطلًا إلا ما ينكر هواه.
يقول ابن القيم: «فإن اتباع الهوى يعمي عين القلب، فلا يميز بين السنة والبدعة أو ينكسه فيرى البدعة سنة والسنة بدعة»(251).
ويقول في موضع آخر: «أن اتّباع الهوى يغلق عن العبد أبواب التوفيق، ويفتح عليه أبواب الخذلان»(252).
ومن كل ما تقدم يمكن أن نستنتج أن الاستمرار على اتباع الهوى يفسد القلب، ويطمس نوره، ويعمي بصره، ويحول بينه وبين السلامة، وأن الأمة التي يتبع فيها الهوى، يشيع فيها الحمق والقصور العقلي، كما تبين لنا أن الطبع على القلوب هو نتيجة حاصلة من إتباع الهوى، فالذي يهوي ويتبع الهوى، يضع على عينيه غشاوة، وفي أذنه وقر، فإذا سدّت الآذان، وغشيت العين، أصبح القلب مغلقًا مطبوعًا عليه، فلا فهم صحيح ولا قصد حسن.
موضوعات ذات صلة: |
التفكر، الغفلة، القلب، الكفر، المرض |
(1) انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس 3/483، لسان العرب، ابن منظور 8/232.
(2) انظر: مجاز القرآن، أبو عبيدة 2/125، النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير 3/122.
(3) المفردات، الراغب الأصفهاني ص515.
(4) انظر: تهذيب اللغة، الأزهري 9/143، مقاييس اللغة، ابن فارس 5/17.
(5) انظر: مفردات القرآن، الفراهي ص349.
(6) انظر: الصحاح، الجوهري 3/1253، مقاييس اللغة 3/438، بصائر ذوي التمييز، الفيروزآبادي 3/495.
(7) التحرير والتنوير 6/17 - 18.
(8) الفروق اللغوية، العسكري ص73.
(9) انظر: نزهة الأعين النواظر، ابن الجوزي ص482.
(10) انظر: التعريفات ص178.
(11) صراع مع الملاحدة، الميداني ص388.
(12) أخرجه أحمد في مسنده، 24/255، رقم 15498، وأبو داود في سننه، 2/285، رقم 1052، والترمذي في سننه، 1/630، رقم 500.
وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 4/218، رقم 965.
(13) انظر: النهاية في غريب الحديث، ابن الأثير 3/112.
(14) انظر: المعجم المفهرس، محمد فؤاد عبد الباقي، ص425، المعجم المفهرس الشامل، عبدالله جلغوم، ص719.
(15) التحرير والتنوير 6/17 - 18.
(16) انظر: مقاييس اللغة 2/245.
(17) انظر: تاج العروس 21/439.
(18) الكليات، الكفوي ص431.
(19) قواعد التدبر الأمثل، عبد الرحمن حبنكة ص461.
(20) انظر: لسان العرب 12/163.
(21) الوجوه والنظائر، الدامغاني ص206.
(22) معاني القرآن وإعرابه 1/82.
(23) الفروق اللغوية ص73.
(24) التفسير القيم ص115.
(25) انظر: مجاز القرآن 2/289.
(26) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير 2/291، لسان العرب، ابن منظور 13/192.
(27) انظر: معاني القرآن وإعرابه 5/299.
(28) المفردات، الراغب ص373.
(29) انظر: مفاتيح الغيب، الرازي 31/88.
(30) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، 3/122.
(31) المصدر السابق 3/112.
(32) التفسير القيم، ابن القيم 1/564.
(33) معاني القرآن وإعرابه 5/299.
(34) التفسير القيم 1/564.
(35) المنار، رشيد رضا 1/121.
(36) انظر: النهاية في غريب الحديث، ابن الأثير 2/291، لسان العرب، ابن منظور 13/192.
(37) انظر: الصحاح، الجوهري 6/2188، تاج العروس 36/63.
(38) انظر: معاني القرآن، النحاس 6/242.
(39) المفردات ص612.
(40) انظر: المصدر السابق ص275.
(41) مقاييس اللغة 4/390.
(42) لسان العرب، ابن منظور 9/271.
(43) انظر: الكليات، الكفوي ص673.
(44) مفاتيح الغيب، الرازي 11/259.
(45) انظر: في ظلال القرآن، سيد قطب 2/801.
(46) انظر: مقاييس اللغة 5/112.
(47) انظر: المفردات، الراغب ص680.
(48) تهذيب اللغة، الأزهري 9/134.
(49) النهاية في غريب الحديث، ابن الأثير 3/112.
(50) في ظلال القرآن، سيد قطب 6/3297.
(51) انظر: صراع مع الملاحدة ص388.
(52) انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن أبي حاتم 1/41.
(53) انظر: الكشاف، الزمخشري 1/50.
(54) انظر: مفاتيح الغيب 2/291.
(55) انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي 1/186.
(56) المصدر السابق 1/87.
(57) انظر: المفردات ص275.
(58) انظر: المنار، رشيد رضا 1/118.
(59) انظر: المصدر السابق 1/118-120.
(60) انظر: صراع مع الملاحدة، الميداني ص390-391.
(61) المنار 1/120-121.
(62) شفاء العليل ص91.
(63) التفسير القيم ص45.
(64) المصدر السابق.
(65) المنار، رشيد رضا 6/15.
(66) في ظلال القرآن 2/801.
(67) انظر: المفردات، الراغب الأصفهاني ص819.
(68) التعريفات 245.
(69) المنار، رشيد رضا 9/28.
(70) انظر: المحرر الوجيز، ابن عطية 5/312.
(71) الجامع لحكام القرآن 18/124.
(72) في ظلال القرآن، سيد قطب 6/3574.
(73) التحرير والتنوير، ابن عاشور 28/237.
(74) مفتاح دار السعادة ص101.
(75) طريق الهجرتين، ابن القيم 1/403 -404.
(76) انظر: المصدر السابق.
(77) انظر: فتح القدير، الشوكاني 5/46.
(78) المحرر الوجيز 3/133.
(79) جامع البيان 15/154.
(80) انظر: أضواء البيان 3/311.
(81) تفسير الشعراوي 10/6121.
(82) التفسير المنير، الزحيلي 21/122.
(83) تأويلات أهل السنة، الماتريدي 6/71.
(84) تفسير القرآن العزيز، ابن أبي زمنين 2/268.
(85) الوسيط للقرآن، نخبة من علماء الازهر 8/637.
(86) جامع البيان 21/384.
(87) تأويلات أهل السنة، 9/28.
(88) في قوله تعالى: (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ) [غافر:35].
(89) الكشاف 4/167.
(90) التفسير القرآني للقرآن، عبد الكريم الخطيب 12/1234.
(91) انظر: التفسير المنير، الزحيلي 24/118.
(92) أخرجه مسلم في صحيحه، 1/93، رقم 91.
(93) انظر: موسوعة فقه القلوب، التويجري 4/3095.
(94) انظر: المفردات، الراغب 849.
(95) انظر: روضة المحبين، ابن القيم ص 402.
(96) انظر: المصدر السابق ص 475-476.
(97) جامع البيان 22/75.
(98) الكشاف، الزمخشري 4/291.
(99) انظر: صراع مع الملاحدة، الميداني ص392- 393.
(100) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 7/2419.
(101) انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي 16/167.
(102) أخرجه مسلم في صحيحه، 1/128، رقم 144.
وذكر الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي في شرحه لقوله: (كالكوز مجخيا) أي: قُلِبَ ونُكِّسَ حتى لا يعلق به خير ولا حكمة.
(103) أخرجه أحمد في مسنده، 28/350، رقم 17123، والترمذي في سننه، 4/219، رقم 2459.
وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة، 11/499، رقم 5319.
(104) في ظلال القرآن، سيد قطب 5/3230.
(105) المنار، رشيد رضا 9/529.
(106) جامع البيان 18/657.
(107) الكشاف 3/162.
(108) تفسير المراغي 17/123.
(109) انظر: لطائف المعارف، ابن رجب ص251.
(110) حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي، شهاب الدين الخفاجي، 1/526.
(111) انظر: مفتاح دار السعادة 1/187.
(112) انظر: لطائف المعارف ص317.
(113) جامع البيان 13/471.
(114) انظر: التفسير القيم، ابن القيم 1/301.
(115) انظر: الفوائد ص88-89.
(116) انظر: شفاء العليل، ابن القيم ص31.
(117) أخرجه أحمد في مسنده، 19/160، رقم 12107.
وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 5/126، رقم 2091.
(118) في ظلال القرآن 3/1495.
(119) انظر: حلية الأولياء، أبو نعيم 1/244.
(120) الفوائد 1/20.
(121) أخرجه ابن المبارك في الزهد ص75.
(122) انظر: نضرة النعيم، مجموعة باحثين 8/3454.
(123) انظر: جامع العلوم والحكم 1/211.
(124) أخرجه أحمد في مسنده، 20/343، رقم 13048.
قال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده ضعيف لضعف علي بن مسعدة الباهلي.
(125) انظر: جامع العلوم والحكم 1/211.
(126) الجواب الكافي، ص233.
(127) انظر: إغاثة اللهفان، ابن القيم 2/ 198.
(128) انظر: مدارج السالكين 1/143.
(129) انظر: لسان العرب، 4/65.
(130) انظر: المفردات ص127.
(131) الكليات ص247.
(132) الجامع لأحكام القرآن 9/274.
(133) أنوار التنزيل 3/178.
(134) معالم التنزيل 4/282.
(135) نظم الدرر 10/242.
(136) انظر: بصائر ذوي التمييز، الفيروزآبادي 5/258.
(137) الرسالة التبوكية 1/13.
(138) انظر: المحرر الوجيز، 1/230.
(139) أخرجه ابن المبارك في الزهدص473.
(140) سير أعلام النبلاء 4/601.
(141) انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي 20/32، منهج القرآن في تربية الرجال، عبد الرحمن عميرة ص99.
(142) انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور 8/75.
(143) انظر: النكت والعيون، الماوردي 2/214.
(144) انظر: زاد المسير، ابن الجوزي 2/110.
(145) انظر: النكت والعيون، الماوردي 2/214.
(146) جامع البيان 12/371.
(147) انظر: الفوائد، ابن القيم ص141.
(148) في ظلال القرآن 1/197.
(149) انظر: مدارج السالكين، ابن القيم 3/88.
(150) انظر: تفسير الشعراوي 8/4538.
(151) انظر: في ظلال القرآن، سيد قطب 3/1499.
(152) الكشاف، الزمخشري 2/154.
(153) انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير 4/43، أضواء البيان، الشنقيطي 2/52
(154) انظر: موسوعة فقه القلوب، التويجري 6/87.
(155) روضة العقلاء، ابن حبان ص30.
(156) انظر: إحياء علوم الدين، الغزالي 3/12
(157) انظر: أمراض القلوب وشفاؤها، ابن تيمية ص42.
(158) انظر: مفتاح دار السعادة، ابن القيم 1/124
(159) انظر: موسوعة فقه القلوب، التويجري 1/3.
(160) انظر: المصدر السابق 3/31.
(161) انظر: شفاء العليل 107
(162) انظر: جامع البيان، الطبري 7/473.
(163) مفاتيح الغيب 9/458.
(164) انظر: الكشاف 1/454.
(165) المصدر السابق 1/452.
(166) انظر: في ظلال القرآن، سيد قطب 1/544.
(167) انظر: تفسير المراغي 4/162.
(168) انظر: المصدر السابق 26/180.
(169) في ظلال القرآن 6/3379.
(170) المصدر السابق 6/3379.
(171) التبيان في أقسام القرآن ص303.
(172) انظر: جامع البيان، الطبري 2/373.
(173) انظر: تفسير القرآن العزيز 4/278
(174) انظر: تفسير السمرقندي 3/338.
(175) الكشاف 4/391.
(176) انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي 17/23.
(177) انظر: مفاتيح الغيب 28 /150.
(178) انظر: أنوار التنزيل، البيضاوي 3/369، محاسن التأويل، القاسمي 9/30.
(179) تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص698.
(180) انظر: مفهوم العقل والقلب في القرآن والسنة، محمد الجوزو، ص226-227.
(181) زاد المسير 1/338.
(182) انظر: في ظلال القرآن، سيد قطب 1/496.
(183) الكليات، الكفوي 1/34.
(184) انظر: المفردات، الراغب ص761.
(185) أمراض القلوب وشفاؤها 8.
(186) إحياء علوم الدين، الغزالي 3/339.
(187) انظر: جامع البيان، الطبري 13/278.
(188) انظر: تفسير الشعراوي 7/4476.
(189) تفسير القرآن العظيم 4/590
(190) انظر: موسوعة فقه القلوب، التويجري 5/27.
(191) أمراض القلوب وشفاؤها 9.
(192) إحياء علوم الدين 3/13.
(193) انظر: إعلام الموقعين، ابن القيم 1/53.
(194) الفتاوى الكبرى، 5/50.
(195) انظر: موسوعة فقه القلوب، التويجري 5/27.
(196) مفتاح دار السعادة ص467.
(197) انظر: القلوب وآفاتها، صلاح الدين علي ص60
(198) جامع البيان 12/58.
(199) انظر: المنار، محمد رشيد رضا 9/28.
(200) انظر: تفسير الشعراوي 7/4264.
(201) المحرر الوجيز، ابن عطية 4/127.
(202) المصدر السابق 4/127.
(203) انظر: محاسن التأويل، القاسمي 7/251.
(204) إعراب القرآن وبيانه، محيي الدين أحمد درويش 7/599.
(205) مفاتيح الغيب، الرازي 23/233.
(206) انظر: تفسير المراغي 17/123.
(207) انظر: مفهوم العقل والقلب في القرآن والسنة، محمد الجوزو، ص 178-188.
(208) انظر: صراع مع الملاحدة، الميداني ص390.
(209) انظر: المحرر الوجيز، ابن عطية 3/425.
(210) انظر: تفسير الشعراوي 13/814.
(211) موسوعة فقه القلوب 4/63.
(212) انظر: صراع مع الملاحدة، الميداني ص388.
(213) جامع البيان 12/7.
(214) انظر: معالم التنزيل، البغوي 3/216، تفسير القرآن العظيم، ابن كثير 3/453.
(215) انظر: الكشاف، الزمخشري 2/135، التحرير والتنوير، ابن عاشور 9/30.
(216) انظر: في ظلال القرآن 3/1342
(217) انظر: مفاتيح الغيب، الرازي 14/323، الجامع لأحكام القرآن، القرطبي 7/255.
(218) مفاتيح الغيب 14/323.
(219) انظر: تفسير الشعراوي 7/4266.
(220) انظر: المنار، محمد رشيد رضا 9/30.
(221) انظر: جامع البيان، الطبري 9/363، مفاتيح الغيب، الرازي 11/258.
(222) انظر: الوسيط، محمد سيد طنطاوي 3/376.
(223) مجموع الفتاوى 14/52.
(224) شفاء العليل ص93.
(225) المصدر السابق ص93
(226) انظر: مفتاح دار السعادة، ابن القيم ص99-100
(227) انظر: محاسن التأويل، القاسمي 3/391.
(228) انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي 14/49، روح المعاني، الألوسي 11/60.
(229) انظر: مدارج السالكين 1/467.
(230) انظر: جامع البيان، الطبري 20/120، تفسير المراغي 21/68.
(231) انظر: نظم الدرر، البقاعي 15/136.
(232) التحرير والتنوير 21/134.
(233) انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي 645.
(234) انظر: روح المعاني، الألوسي 11/61.
(235) انظر: التفسير المنير، الزحيلي 21/122.
(236) تفسير الشعراوي 19/11556.
(237) انظر: في ظلال القرآن 5/2778.
(238) انظر: لسان العرب، ابن منظور 15/372.
(239) انظر: تفسير الجلالين، جلال الدين المحلي وجلال الدين السيوطي ص791.
(240) انظر: مدار السالكين، ابن القيم 1/447.
(241) انظر: جامع البيان، الطبري 22/169.
(242) انظر: لباب التأويل، الخازن 4/144، التفسير المنير، الزحيلي 6/109.
(243) تيسير الكريم الرحمن ص786.
(244) انظر: التحرير والتنوير 26/101.
(245) انظر: الإبانة، العكبري 1/189.
(246) انظر: الجواب الكافي، ابن القيم ص42.
(247) النبوات، 2/658.
(248) انظر: القلوب وآفاتها، صلاح الدين علي 92.
(249) ذم الهوى، ص12.
(250) إعلام الموقعين 4/172.
(251) الفوائد ص101.
(252) روضة المحبين ص479.
أضف تعليقك
عفوا، ليست لديك صلاحية لتنفيذ طلبك
حساب جديد تسجيل الدخول